ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب قرأ
حمزة : " يميز " بتشديد الياء من التمييز ، والباقون بتخفيفها من ماز . قال الأستاذ الإمام : كان الكلام مسترسلا في بيان حال المؤمنين في وقعة
أحد ، وما بعدها ، وجاء في السياق بيان حال من ظهر نفاقهم ، وضعفهم ، وبيان حال المجاهدين ، والشهداء ومن هم بمنزلة الشهداء ، وحال الكفار المهددين للمسلمين . وكون الإملاء لهم ، واستدراجهم بطول البقاء في الدنيا ليس خيرا لهم ، وقد كانت وقعة
أحد أشد وقعة أحس المسلمون عقبها بألم الغلب ، لأنهم لم يكونوا يتوقعونه بعد رؤية بوادر النصر في "
بدر " ، ولأنه ظهر فيها حال المنافقين ، وتبين ضعف نفوس بعض المؤمنين الصادقين ، ولذلك كانت عناية الله - تعالى - ببيان فوائد المسلمين فيها عظيمة . ومنها ختمها بهذه الآية الكريمة المبينة لسنة من السنن التي ذكرت في سياق تلك الآيات الحكيمة ، والمعنى : ما كان من شأن الله تعالى ، ولا من سنته في عباده
[ ص: 208 ] أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كان عليها المسلمون عند حدوث غزوة
أحد حتى يميز الخبيث من الطيب . وكيف كانوا ؟
كانوا يصلون ويمتثلون كل ما يأمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه إرسال السرايا المعتاد مثلها ، ولم تكن فيها مخاوف كبيرة على الإسلام وأهله ; ولذلك كان يختلط فيها الصادق بالمنافق بلا تمييز ; إذ التمايز لا يكون إلا بالشدائد ، أما الرخاء ، واليسر ، وتكليف ما لا مشقة فيه - كالصلاة ، والصدقة القليلة - فكان يقبله المنافقون كالصادقين لما فيه من حسن الأحدوثة مع التمتع بمزايا الإسلام ، وفوائده ، وربما خدع الشيطان المؤمن الموقن بترغيبه في الزيادة من أعمال العبادات السهلة - ولاسيما إذا كان داخلا في دين جديد - لما في ذلك من الرياء والسمعة ، والاستواء في الظاهر مدعاة الالتباس والاشتباه .
الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه ، فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها ، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين ، وفي ذلك فوائد كبيرة : منها أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة ، ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال ، فإذا عرفه اتقى ذلك ، ومنها أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية ; لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها ، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها . هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس ، وأما الأفراد فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم ; فإن المؤمن الصادق قد يغتر بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد ، والأخلاق ; لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهره الشدائد .
فلما كان هذا اللبس ضارا بالأفراد والجماعات ، ولم يكن من شأن الله ولا من حكمته أن يستبقي في عباده ما يضرهم مضت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب ، فتظهر الخفايا ، وتبلى السرائر حتى يرتفع الالتباس ، ويتضح المنهج السوي للناس .
قد يخطر في البال أن أقرب وسيلة لرفع اللبس هي أن يطلع الله المؤمنين على الغيب فيعرفوا حقيقة أنفسهم ، وحقائق الناس الذين يعيشون معهم ، ولكن الله - تعالى - أخبر أن هذا ليس من شأنه ، ولا من سننه ، كما أن ترك الالتباس والاشتباه ليس من سنته ، فقال :
وما كان الله ليطلعكم على الغيب وإنما لم يكن من شأنه إطلاع الناس على الغيب ; لأنه لو فعل ذلك لأخرج به الإنسان عن كونه إنسانا ، فإنه - تعالى - خلق الإنسان نوعا عاملا يحصل جميع رغائبه ، ويدفع جميع مكارهه بالعمل الكسبي الذي ترشده إليه الفطرة وهدي النبوة ; ولذلك جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ويميز بين الخبيث والطيب بالشدائد ، وما تتقاضاه من بذل الأموال ، والأرواح في سبيله التي هي سبيل الحق ، والخير لا سبيل الهوى ، كما ابتلى
[ ص: 209 ] المؤمنين في وقعه
أحد بجيش عظيم ، وابتلاهم باختيار الخروج لمحاربته ، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة ، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم ، ثم ابتلاهم بظهور العدو عليهم جزاء على ما ذكر حتى ظهر نفاق المنافقين ، وزلزال ضعفاء المؤمنين ، وثبات كملة الموقنين .
ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء أي يصطفيهم فيطلعهم على ما شاء من الغيب ، وهو ما في تبليغه للناس مصلحة ، ومنفعة لهم في الإيمان كصفات الله - تعالى - واليوم الآخر ، وبعض شئونه ، والملائكة ، وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ، ومدحوا عليه في مثل قوله - تعالى - :
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب [ 2 : 1 - 3 ] أقول : والدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو قوله تعالى
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم [ 72 : 26 - 28 ] وعلى هذا يكون قوله تعالى
فآمنوا بالله ورسوله متضمنا للإيمان بما أخبر به رسله من خبر الغيب
وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم أي إن أنتم آمنتم بما جاءوا به من خبر الغيب ، وقرنتم بالإيمان تقوى الله - تعالى - بترك المنهيات ، وفعل المأمورات بقدر الاستطاعة ، فلكم أجر عظيم لا يقدر قدره لا يعرف كنهه .
لز التقوى هاهنا مع الإيمان في قرن ، وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم ، وهي أظهر ، وأشهر ، وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها .
وقد ذهب وهم بعض الناس إلى أن الآية تدل على أن
من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب كله ، واستثنى بعضهم علم الساعة لكثرة ما ورد من الآيات التي تنفي علمها عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وزعم بعضهم أن الله - تعالى - أطلعه على
علم الساعة قبل وفاته . وكل ذلك من الجرأة على الله - تعالى - والقول عليه بغير علم
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون [ 6 : 50 ] هذا ما أمر الله خاتم رسله أن يبلغه خلقه ، وهو ما أمر به من قبله من الرسل ، كما قال حكاية عن
نوح - على نبينا ، وعليه الصلاة والسلام - :
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك [ 11 : 31 ] فهم كانوا ينفون أن يكونوا متصرفين في خزائن الله بالإعطاء ، والمنع ، وأن يكونوا يعلمون الغيب ، وأن يكونوا ملائكة ، أي من غير جنس البشر . وأمر الله نبيه أن يستدل على عدم معرفته الغيب بقوله :
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون [ 7 : 188 ] ، وقال - عز وجل - :
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 : 59 ]
[ ص: 210 ] يقولون : إنه لا يعلمها غيره بعلم ذاتي استقلالي ; ونقول : إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله عن نفسه ، فإن ذلك يفضي إلى تعطيل جميع صفات الألوهية بالتأويل ، فيجب أن نقف عند حدود النصوص في أمر الغيب لأنه لا يعرف بالقياس ، ولا مجال فيه لعقول الناس ، وسيأتي لهذا البحث مزيد بيان في سورة الأنعام ، وغيرها إن شاء الله - تعالى - .