الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار أي أولئك هم الذين قالوا في الاعتذار عن عدم الإيمان
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - : إن الله عهد إلينا في كتابه التوراة ألا نؤمن لرسول يدعي أنه مرسل من الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
قال المفسرون : إنهم أرادوا شيئا كان شائعا عندهم ، وهم أن يذبح القربان من النعم ، أو غيرها ، فيوضع في مكان معين فتأتي نار بيضاء من السماء لها دوي فتأخذه ، أو تحرقه
[ ص: 219 ] وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة ، فإذا تقبل منه نزلت عليه نار من السماء ، فأكلته ; أي أكلت ما تصدق به . هذا ما أورده ، وردوه بأن هذا القربان إنما كان يوجب الإيمان لأنه معجزة لا لذاته إذ هو كغيره من المعجزات .
أقول : إن
القربان في عبادة بني إسرائيل كان على قسمين : دموي ، وغير دموي . فالقرابين الدموية كانت تكون من الحيوانات الطاهرة كالبقر ، والغنم ، والحمام ، وغير الدموية هي باكورات المواسم ، والخمر ، والزيت ، والدقيق . والقرابين عندهم أنواع منها : المحرقات ، والتقدمات ، وذبائح السلامة ، وذبائح الخطيئة ، وذبائح الإثم . وكانوا يحرقون المحرقات بأيديهم .
وقد جاء في الفصل الأول من سفر اللاويين في ذلك ما نصه :
" [ 1 ] ودعا الرب موسى . وكلمه من خيمة الاجتماع قائلا [ 2 ] كلم
بني إسرائيل وقل لهم . إذا قرب إنسان منكم قربانا للرب من البهائم فمن البقر ، والغنم تقربون قرابينكم [ 3 ] إن كان قربانه محرقة من البقر فذكرا صحيحا يقربه إلى باب خيمة الاجتماع يقدمه للرضا عنه أمام الرب [ 4 ] ويضع يده على رأس المحرقة فيرضى عليه للتكفير عنه [ 5 ] ويذبح العجل أمام الرب ، ويقرب بنو هارون الكهنة الدم ، ويرشون الدم مستديرا على المذبح الذي لدى باب خيمة الاجتماع [ 6 ] ويسلخ المحرقة ، ويقطعها إلى قطعها [ 7 ] ويجعل بنو هارون الكاهن نارا على المذبح ، ويرتبون حطبا على النار [ 8 ] ويرتب بنو هارون الكهنة القطع مع الرأس ، والشحم فوق الحطب الذي على النار التي على المذبح [ 9 ] وأما أحشاؤه وأكارعه فيغسلها بماء ويوقد الكاهن الجميع على المذبح محرقة وقود رائحة سرور للرب "
ثم ذكر تفصيل قربان الغنم بصنفيه الضأن والمعز ، والطير وهو صنفان أيضا الحمام واليمام بنحو ما تقدم كما بين بقية أنواع القرابين . فمن هنا تعلم أنهم كانوا يوقدون النار بأيديهم ويحرقون بها القرابين المحرقات ، ولكن
اليهود كانوا يلقون إلى المسلمين أخبارا من خرافاتهم ، أو مخترعاتهم ليودعوها كتبهم ، ويمزجوها بدينهم ، ولذلك نجد في كتب قومنا من الإسرائيليات الخرافية ما لا أصل له في العهد القديم ، ولا يزال يوجد فينا من يقدس كل ما روي عن أوائلنا في التفسير ، وغيره ، ويرفعه عن النقد والتمحيص ، ولا يتم تمحيص ذلك إلا لمن اطلع على كتب
بني إسرائيل .
أما الأستاذ الإمام فقد ذكر ما قاله المفسرون في القربان ، ثم قال : ويجوز وهو الأظهر
[ ص: 220 ] أن يكون معنى
حتى يأتينا بقربان تأكله النار أن يفرض علينا تقريب قربان يحرق بالنار ، فقد كان من أحكام الشريعة عندهم أن يحرقوا بعض القربان وقد أمر الله - تعالى - نبيه أن يرد عليهم فقال :
قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين في زعمكم لا تؤمنون بي لأني لم آمر بإحراق القرابين ، أي إنكم لم ترضوا بعصيان أولئك الرسل فقط بل قسوتم عليهم ، وقتلتموهم .
قال الأستاذ الإمام : لا ريب أن هذا لم يقع منكم إلا لأنكم شعب غليظ الرقبة ( بذا وصفوا في التوراة التي في أيديهم ) وأنكم قساة غلف القلوب لا تفقهون الحق ، ولا تذعنون له . وهذا مبني على ما قلناه من اعتبار الأمة باتفاق أخلاقها ، وصفاتها ، وعاداتها العامة كالشخص الواحد ، وكان هذا المعنى معروفا عند العرب ، فإنهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته ويؤاخذونها به ولو بعد موته ، ويدلنا هذا على أن الجنايات ، والجرائم مرتبطة في حكم الله - تعالى - بمناشئها ، ومنابعها فمن لم يرتكب الجريمة ؛ لأن آلاتها ، وأسبابها غير حاضرة لديه لا يكون بريئا من الجريمة إذا كان منشؤها والباعث عليها مستقرا في نفسه ، وهذا المنشأ هو التهاون بأمر الشريعة ، وعدم المبالاة بأمر الحق ، والتحري فيه .
فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الناصعة ، والزبر الصادعة ، والكتاب الذي ينير السبيل ، ويقيم الدليل . فلا تأس عليهم ، ولا تحزن لكفرهم ، ولا تعجب من فساد أمرهم ، فإن هذه سنة الله في العباد ، وشنشنة من سبق من هؤلاء من آباء وأجداد
فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير فأقاموا على أقوامهم الحجة ببيناتهم ، وهزموا قلوبهم بزبر عظاتهم ، وأناروا بالكتاب سبيل نجاتهم فما أغنى ذلك عنهم من شيء لما انصرفت قلوبهم عن طلب الحق ، وتحري سبيل الخير . فالآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان لطباع الناس ، واستعدادهم .
والزبر : جمع زبور بمعنى مزبور ، من زبرت الكتاب إذا كتبته مطلقا ، أو كتابة عظيمة غليظة . قاله
الراغب ، أو متقنة كما في لسان العرب ، فهو بمعنى الكتب والصحف ، يقال : زبرت الكتاب بمعنى كتبته . وبمعنى قرأته ، أو بمعنى الزاجرة ، قال في اللسان : وزبره يزبره بالضم نهاه ونهره ، وفي الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003173إذا رددت على السائل ثلاثا فلا عليك أن تزبره " أي تنهره ، وتغلظ له في القول ، والرد . والزبر بالفتح : الزجر ، والمنع اهـ . وأصل معنى الزبر القطع ، ومنه زبر الحديد قطعه ، ويوشك أن تكون الزبر هنا المواعظ ، والكتاب المنير جنسه أي الكتب الأربعة ، أو الزبر صحف الأنبياء والكتاب المنير الإنجيل .