ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك أي يقول الذين يجمعون بين التذكر والتفكر ، معبرين عن نتيجة جمع الأمرين ، والتأليف بين المقدمتين : ربنا ما خلقت هذا الذي نراه من العوالم السماوية ، والأرضية باطلا ، ولا أبدعته ، وأتقنته عبثا ، سبحانك وتنزيها لك عن الباطل ، والعبث بل كل خلقك حق مؤيد بالحكم ، فهو لا يبطل ولا يزول ، وإن عرض له التحول والتحليل والأفول ، ونحن بعض خلقك لم نخلق عبثا ، ولا يكون وجودنا من كل وجه باطلا ، فإن فنيت أجسادنا ، وتفرقت أجزاؤنا بعد مفارقة أرواحنا لأبداننا ، فإنما يهلك منا كوننا الفاسد ، ووجهنا الممكن الحادث ، ويبقى وجهك الكريم ، ومتعلق علمك القديم .
يعود بقدرتك في نشأة أخرى ، كما بدأته في النشأة الأولى ، فريق ثبتت لهم الهداية ، وفريق حقت عليهم كلمة الضلالة ، فأولئك في الجنة بعلمهم ، وفضلك ، وهؤلاء في النار بعلمهم وعدلك
فقنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك لنا واجعلنا مع الأبرار بهدايتك إيانا ورحمتك بنا .
قال الأستاذ الإمام في تفسير :
ربنا ما خلقت هذا باطلا إلخ : هذه حكاية لقول هؤلاء الذين يجمعون بين تفكرهم وذكر الله - عز وجل - ويستنبطون من اقترانهما الدلائل على حكمة الله ، وإحاطة علمه - سبحانه - بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه حق الربط . وقد اكتفى بحكاية مناجاتهم لربهم عن بيان نتائج ذكرهم ، وفكرهم ، فطي هذه ، وذكر تلك من إيجاز القرآن البديع ، وفيه
تعليم المؤمنين كيف يخاطبون الله - تعالى - عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه ، وبدائع خلقه ، كأنه يقول : هذا هو شأن المؤمن الذاكر المتفكر ، يتوجه إلى الله في هذه الأحوال بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال ، وكون هذا ضربا من ضروب التعليم ، والإرشاد لا يمنع أن بعض المؤمنين قد نظروا ، وذكروا ، وفكروا ، ثم قالوا هذا أو ما يؤدي معناه ، فذكر الله حالهم ، وابتهالهم ، ولم يذكر قصتهم ، وأسماءهم لأجل أن يكونوا قدوة لنا في علمهم ، وأسوة في سيرتهم ، أي لا في ذواتهم ، وأشخاصهم ، إذ لا فرق في هذا بيننا وبينهم .
قال : أما
معنى كون هذا الخلق لا يكون باطلا ، فهو أن هذا الإبداع في الخلق ، والإتقان للصنع لا يمكن أن يكون من العبث والباطل ، ولا يمكن أن يفعله الحكيم العليم لهذه الحياة الفانية فقط ، كما أن الإنسان الذي أوتي العقل الذي يفهم هذه الحكم ، ودقائق
[ ص: 247 ] هذا الصنع ، وكلما ازداد علما حتى إنه لا حد يعرف لفهمه وعلمه ، لا يمكن أن يكون وجد ليعيش قليلا ، ثم يذهب سدى ، ويتلاشى فيكون باطلا ، بل لا بد أن يكون باستعداده الذي لا نهاية له قد خلق ليحيا حياة لا نهاية لها ، وهي الحياة الآخرة التي يرى كل عامل فيها جزاء عمله ; ولهذا وصل الثناء بهذا الدعاء ، ومعناه : جنبنا السيئات ، ووفقنا للأعمال الصالحات ، حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار ، وهذه هي نتيجة فكر المؤمن .
قال : ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر مع الذكر إلى بقاء العالم ، واستمراره ; لأن نظامه البديع لا يمكن أن يجعله الحكيم باطلا ( أي لا في الحال ولا في الاستقبال ) وبعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار في الحياة الثانية يتوجهون إليه قائلين :
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته أي إنهم ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي العظيم الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار ، والحكم ، والدلائل على قدرته ، وعزته ، فيعلمون أنه لا يمكن لأحد أن ينتصر عليه ، وأن من عاداه فلا ملجأ ولا منجى له منه إلا إليه ، فيقرون بأن من أدخله ناره فقد أخزاه ، أي أذله وأهانه .
وما للظالمين من أنصار وصف من يدخلون النار بالظالمين تشنيعا لأعمالهم ، وبيانا لعلة دخولهم فيها ، وهو جورهم ، وميلهم عن طريق الحق . فالظالم هنا هو الذي يتنكب الطريق المستقيم لا الكافر خاصة كما قال بعض المفسرين ، فإن هذا التخصيص لا حاجة إليه ، ولا دليل عليه ، وإنما سببه ولوع الناس بإخراج أنفسهم من كل وعيد يذكر في كتابهم ، وحمله بالتأويل والتحريف على غيرهم ، كذلك فعل السابقون ، واتبع سننهم اللاحقون ، فكل ظالم يؤخذ بظلمه ، ويعاقب على قدره ، ولا يجد له نصيرا يحميه من أثر ذنبه .