وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا إن من يفسر
الذين كفروا في الآية السابقة
بأهل الكتاب يجعل هذه الآية استدراكا ، أو استثناء من عمومها ، أي ذلك جزاء من استكبرتم ما يتمتعون به ممن أصر منهم على كفره ، وإن منهم لمن يؤمن بالله إلخ . ويصح هذا أيضا على الوجه الذي اخترناه ، وهو عموم الذين كفروا . وقد جاء بمعنى هذه الآية عدة آيات : وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي من حديث
أنس قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919013لما جاء نعي nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صلوا عليه ، قالوا يا رسول الله ، نصلي على عبد حبشي ؟ فأنزل الله هذه الآية " ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير نحوه عن
جابر ، وفي المستدرك عن
عبد الله بن الزبير قال : نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله انتهى من لباب النقول .
ونقول : إنها تشمل
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي ، وغيره من
اليهود ،
والنصارى الذين صدق عليهم ما فيها من الصفات ، وكذا المجوس على القول بأنهم
أهل الكتاب كما روي عن
علي - رضي الله عنه - ، ولكن لا نعرف أحدا منهم أسلم في عهد التنزيل إلا
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي - رضي الله عنه - على أنه كان قد تنصر قبل إسلامه . ثم راجعت
الرازي فإذا هو يقول : واختلفوا في نزولها ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وجابر ،
وقتادة : نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي حين مات ، وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال المنافقون : إنه يصلي على نصراني لم يره قط . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ،
وابن زيد : نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام ، وأصحابه . وقيل : نزلت في أربعين من
أهل نجران ، واثنين وثلاثين
[ ص: 259 ] من
الحبشة ، وثمانية من
الروم كانوا على دين
عيسى فأسلموا . وقال
مجاهد : نزلت في مؤمني
أهل الكتاب كلهم ، وهذا هو الأولى ، لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب اهـ .
وقال الأستاذ الإمام : إنه بعد أن بين حال المؤمنين ، وما أعد لهم من الثواب ، وذكر حال الكافرين ، وما أعد لهم من العقاب ، ذكر فريقا من
أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن ، وكانوا مهتدين من قبله بما عندهم من هدي الأنبياء ، وذكر من وصفهم بالخشوع لله ، وما كل من يدعي الإيمان بالكتاب خاشع لله ، وهذا
الخشوع هو روح الدين ، وهو السائق لهم إلى الإيمان بالنبي الجديد ، وهو الذي حال بينهم وبين أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، وهذا الثمن يعم المال والجاه ، فإن منه التمتع بما كانوا فيه من ذلك ، وإن صعبا على الإنسان أن يترك ما ألفه ، وخص هؤلاء بالذكر على كونهم من المؤمنين الذين وعدوا بما تقدم ذكره في مقابلة الكافرين لأجل القدوة بهم في صبرهم على الحق في الدين السابق ، والدين اللاحق ، وذكر إيمانهم بصيغة التأكيد ; لأن
أهل الكتاب - بغرورهم بكتابهم ، وتوهمهم الاستغناء بما عندهم عن غيره - كانوا أبعد الناس عن الإيمان ، وكان من الغرابة بعد ذلك العناد ومكابرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسده على النبوة ، والتشدد في إيذائه أن يؤمن بعضهم إيمانا صحيحا كاملا ; ولهذا كان المؤمنون منهم قليلين ، وكانوا من خيارهم علما ، وفضلا ، وبصيرة ، وإننا نرى علماءنا الأذكياء في هذا العصر قلما يرجعون عن عقيدة ، أو رأي في الدين جروا عليه ، وتلقوه عن مشايخهم ، وقرءوه في كتبهم ، وإن كان باطلا ، وخطأ ظاهرا .
وفي هذه الآية تأييد لكون حال المؤمنين على ما كانوا عليه من ضيق خيرا من حال الكافرين على ما كانوا عليه من سعة ، كأنه يقول : انظروا إلى حال الأخيار من
أهل الكتاب كيف لا يحفلون بذلك المتاع الدنيوي . بل يؤثرون عليه ما عند الله - تعالى - ، فهذا من باب المثل والأسوة للمسلمين .
أقول : وصفهم بخمس صفات - إحداها : الإيمان بالله ، يعني الإيمان الصحيح الذي لا تشوبه نزغات الشرك ، ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل ، لا كمن قال فيهم :
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [ 2 : 8 ] ولا من قال فيهم :
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 : 106 ] ثانيها : الإيمان بما أنزل إلى المسلمين وهو ما أوحاه الله إلى نبيهم
محمد - صلى الله عليه وسلم - وقدمه على ما بعده ; لأنه العمدة الذي عليه العمل ، وله الهيمنة ، والحكم الفصل في الخلاف لثبوته باليقين ، وعدم طروء الضياع عليه والتحريف .
[ ص: 260 ] ثالثها : ما أنزل إليهم ، وهو ما أوحاه الله - تعالى - إلى أنبيائهم . ولا ينافي ذلك ضياع ونسيان بعضه ، وطروء التحريف بالترجمة ، والنقل بالمعنى على البعض الآخر ، فإن المراد هو الإيمان به إجمالا ، واتباع ما أرشد إليه القرآن فيه تفصيلا ،
والقرآن هو العمدة فلا يعتد بإيمان من خالفه بعد العلم به على ما سيأتي قريبا . وقد تقدم بيان حكم القرآن في التوراة والإنجيل في تفسير الآية الأولى من هذه السورة فراجعه [ ص129 - 132 ج 3 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] .
رابعها : الخشوع وهو ثمرة الإيمان الصحيح الذي يعين على اتباع ما يقتضيه الإيمان من العمل ، فالخشوع أثر خشية الله - تعالى - في القلب تفيض على الجوارح ، والمشاعر ، فيخشع البصر بالسكون والانكسار ، ويخشع الصوت بالمخافتة والتهدج ، كما يخشع غيرها .
خامسها : وهي أثر لما قبله عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله كما هو فاش في أصحاب الإيمان التقليدي الجنسي من علماء ملتهم ، ويقع مثله من أمثالهم في سائر الملل ، وقد تقدم بيانه في هذه السورة وما قبلها .
قال - تعالى - :
أولئك لهم أجرهم عند ربهم أي أولئك المتصفون بما ذكر من الصفات لهم أجرهم اللائق بهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه ، وهداهم إلى الحق ; أي في دار الرضوان التي نسبها الرب - عز وجل - إليه تشريفا لها ولأهلها ، بخلاف الذين ليس لهم مثل هذه الصفات من
أهل الكتاب المغرورين بأنفسهم ، وسلفهم عنادا حملهم على كتمان الحق الذي هو نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يعلمون أنه الحق ، فأولئك هم الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، فإن كل من بلغته دعوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وظهرت له حقيقتها كما ظهرت لهم ، وحجد وعاند كما جحدوا وعاندوا فلا يعتد بإيمانه بالأنبياء السابقين ، وكتبهم ، ولا يكون إيمانه بالله - تعالى - إيمانا صحيحا مقرونا بالخشية ، والخشوع ; ولذلك لا يخشاه في مكابرة الحق والإصرار على الباطل . ولا ينافي هذا ما في آية
إن الذين آمنوا والذين هادوا [ 2 : 62 ] من الإطلاق ; لأن تلك الآية فيمن لم تبلغهم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - على حقيقتها ، ولم تظهر لهم حقيقتها كالذين كانوا قبله .
إن الله سريع الحساب يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد قصير بما يكشف لهم من تأثير أعمالهم في نفوسهم بحيث يتمثل لهم فيها كل عمل سبق منهم كالصور المتحركة التي تمثل الوقائع في هذا العصر . وقد سبق تقرير ذلك .