قال : ولما قال :
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة علله بقوله :
ذلك أدنى ألا تعولوا [ ص: 286 ] أي أقرب من عدم الجور ، والظلم ، فجعل البعد من الجور سببا في التشريع وهذا مؤكد لاشتراط العدل ، ووجوب تحريه ، ومنبه إلى أن العدل عزيز . وقد قال - تعالى - في آية أخرى من هذه السورة :
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم [ 4 : 129 ] وقد يحمل هذا على العدل في ميل القلب ولولا ذلك لكان مجموع الآيتين منتجا عدم جواز التعدد بوجه ما ، ولما كان يظهر وجه قوله بعد ما تقدم من الآية :
فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة والله يغفر للعبد ما لا يدخل تحت طاقته من ميل قلبه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يميل في آخر عهده إلى عائشة أكثر من سائر نسائه ، ولكنه لا يخصها بشيء دونهن . أي بغير رضاهن وإذنهن ، وكان يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919021اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك أي من ميل القلب .
قال : فمن تأمل الآيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل ، والأمن من الجور . وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات ، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ، ولا يقوم فيه نظام ، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو للآخر ، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو ، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ، ومن البيوت إلى الأمة .
قال : كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها صلة النسب ، والصهر الذي تقوى به العصبية ، ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن ; لأن الدين كان متمكنا في نفوس النساء ، والرجال ، وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها . أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها إلى والده إلى سائر أقاربه ، فهي تغري بينهم العداوة ، والبغضاء : تغري ولدها بعداوة إخوته ، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها ، وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه ، فيدب الفساد في العائلة كلها ، ولو شئت تفصيل الرزايا والمصائب المتولدة من تعدد الزوجات لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين ، فمنها : السرقة ، والزنا ، والكذب ، والخيانة ، والجبن ، والتزوير ، بل منها القتل ، حتى قتل الولد والده ، والوالد ولده ، والزوجة زوجها ، والزوج زوجته ، كل ذلك واقع ثابت في المحاكم ; وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج ولا قيمة الولد ، وهي جاهلة بنفسها ، وجاهلة بدينها ، لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتها من أمثالها يتبرأ منها كل كتاب منزل ، وكل نبي مرسل ، فلو تربى النساء تربية دينية صحيحة يكون بها الدين هو صاحب السلطان الأعلى ، على قلوبهن بحيث يكون هو الحاكم على الغيرة لما كان هنالك ضرر على الأمة من تعدد الزوجات ، وإنما كان يكون ضرره قاصرا عليهن في الغالب . أما والأمر على ما نرى ، ونسمع فلا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها ،
[ ص: 287 ] فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصا الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر ، وعلى مذهبهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس ، وخيرهم ، وأن من أصوله منع الضرر ، والضرار ، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فشك في وجوب تغير الحكم ، وتطبيقه على الحال الحاضرة : يعني على قاعدة ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) . قال : وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعا عند الخوف من عدم العدل .
هذا قاله الأستاذ الإمام في الدرس الأول الذي فسر فيه الآية ، ثم قال في الدرس الثاني : تقدم أن إباحة
تعدد الزوجات مضيقة قد اشترط فيها ما يصعب تحققه فكأنه نهى عن كثرة الأزواج . وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة ، ولا يفهم منه كما فهم بعض المجاورين أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلا ، أو فاسدا ، فإن الحرمة عارضة لا تقتضي بطلان العقد ، فقد يخاف الظلم ، ولا يظلم ، ثم يتوب فيعدل فيعيش عيشة حلالا .