قال - تعالى - :
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا فأنت ترى أن الكلام كان في حقوق الأيتام ، ولما كان في الناس من يتزوج باليتيمة الغنية ليتمتع بمالها ، ويهضم حقوقها لضعفها حذر الله من ذلك ، وقال ما معناه : إن النساء أمامكم كثيرات ، فإذا لم تثقوا من أنفسكم بالقسط في اليتامى إذا تزوجتم بهن فعليكم بغيرهن ، فذكر مسألة التعدد بشرطها ضمنا لا استقلالا ( على أحد الأوجه ) ، والإفرنج يظنون أنها مسألة من مهمات الدين في الإسلام . ثم قال :
إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ولم يكتف بذلك حتى قال :
ذلك أدنى ألا تعولوا أي إن الاكتفاء بواحدة أدنى ، وأقرب لعدم العول ، وهو الجور ، والميل إلى أحد الجانبين دون الآخر ، من " عال الميزان إذا مال " ، وهو الأرجح في تفسير الكلمة ، فأكد أمر العدل ، وجعل مجرد توقع الإنسان عدم العدل من نفسه كاف في المنع من التعدد . ولا يكاد يوجد أحد يتزوج بثانية لغير حاجة ، وغرض صحيح يأمن الجور ; لذلك كان لنا أن نحكم بأن الذواقين الذين يتزوجون كثيرا لمجرد التنقل في التمتع يوطنون أنفسهم
[ ص: 294 ] على ظلم الأولى ، ومنهم من يتزوج لأجل أن يغيظها ، ويهينها ، ولا شك أن هذا محرم في الإسلام لما فيه من الظلم الذي هو خراب البيوت ، بل وخراب الأمم ، والناس عنه غافلون باتباع أهوائهم .
هذا ما ظهر لنا الآن في الجواب كتبناه بقلم العجلة على أننا كنا قد أرجأنا الجواب لنمعن في المسألة ، ونراجع كتابا ، أو رسالة في موضوعها لأحد علماء ألمانيا قيل لنا : إنها ترجمت ، وطبعت فلم يتيسر لنا ذلك ، فإن بقي في نفس السائل الشيء فليراجعنا فيه ، والله الموفق والمعين اهـ .
وكتبنا في الرد على
لورد كرومر في ( ص225 م 10 ) من المنار ما نصه : طالما انتقد الأوربيون على الإسلام نفسه مشروعية الطلاق ، وتعدد الزوجات ، وهما لم يطلبا ، ولم يحمدا فيه ، وإنما أجيزا ; لأنهما من ضرورات الاجتماع كما بينا ذلك غير مرة ، وقد ظهر لهم تأويل ذلك في الطلاق ، فشرعوه ، وإن لم يشرعه لهم كتابهم ( الإنجيل ) إلا لعلة الزنا ، وأما تعدد الزوجات فقد تعرض الضرورة له فيكون من مصلحة النساء أنفسهن كأن تغتال الحرب كثيرا من الرجال ، فيكثر من لا كافل له من النساء فيكون الخير لهن أن يكن ضرائر ، ولا يكن فواجر يأكلن بأعراضهن ، ويعرضن أنفسهن بذلك لمصائب ترزحهن أثقالها ، وقد أنشأ القوم يعرفون وجه الحاجة بل الضرورة إلى هذا كما عرفوا وجه ذلك في مسألة الطلاق ، وقام غير واحدة من نساء الإنكليز الكاتبات الفاضلات يطالبن في الجرائد بإباحة تعدد الزوجات رحمة بالعاملات الفقيرات ، وبالبغايا المضطرات ، وقد سبق لنا في المنار ترجمة بعض ما كتبت إحداهن في جريدة ( لندن ثروت ) مستحسنة رأي العالم (
تومس ) في أنه لا علاج لتقليل البنات الشاردات إلا تعدد الزوجات ، وما كتبت الفاضلة "
مس أني رود " في جريدة ( الاسترن ميل ) والكاتبة "
اللادي كوك " في جريدة ( الايكو ) في ذلك ( راجع ص481 م 4 ) .
إن قاعدة اليسر في الأمور ، ورفع الحرج من القواعد الأساسية لبناء الإسلام
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 : 185 ] و
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج [ 5 : 6 ] ولا يصح أن يبنى على هذه القاعدة تحريم أمر تلجئ إليه الضرورة ، أو تدعو إليه المصلحة العامة ، أو الخاصة ( كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية وغيرها ) وهو مما يشق امتثاله دفعة واحدة لاسيما على من اعتادوا المبالغة فيه كتعدد الزوجات ، كذلك لا يصح السكوت عنه وترك الناس وشأنهم فيه على ما فيه من المفاسد ، فلم يبق إلا أن يقلل العدد ، ويقيد بقيد ثقيل ، وهو اشتراط انتفاء الخوف من عدم العدل بين الزوجات ، وهو شرط يعز تحققه ، ومن فقهه ، واختبر حال الذين يتزوجون بأكثر من واحدة يتجلى له أن أكثرهم لم يلتزم الشرط ، ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي .
وجملة القول في هذه المسألة : أن القرآن أتى فيها بالكمال الذي لا بد أن يعترف به جماهير الأوربيين ، ولو بعد حين كما يعترف به بعض فضلائهم ، وفضلياتهم الآن : وأما
[ ص: 295 ] المسلمون فلم يلتزموا هدايته ، فصاروا حجة على دينهم ، ونحن أحوج إلى الرد عليهم ، والعناية بإرجاعهم إلى الحق منا إلى إقناع غير المسلمين بفضل الإسلام ، مع بقاء أهله على هذه المخازي ، والآثام ، إذ لو رجعوا إليه لما كان لأحد أن يعترض عليه اهـ .
أما ما أشرنا إليه من اقتراح بعض كاتبات الإفرنج تعدد الزوجات فهو ما أودعناه مقالة عنوانها ( النساء والرجال ) نشرت في ( ص481 م 4 ) من المنار ، وهاك المقصود منها :
لما تنبه
أهل أوربا إلى إصلاح شئونهم الاجتماعية ، وترقية معيشتهم المدنية اعتنوا بتربية النساء وتعليمهن ، فكان لذلك أثر عظيم في ترقيتهم ، وتقدمهم ، ولكن المرأة لا تبلغ كمالها إلا بالتربية الإسلامية ، وأعني بالإسلامية ما جاء به الإسلام لا ما عليه المسلمون اليوم ، ولا قبل اليوم بقرون ، فقد قلت آنفا : إنهم ما رعوا تعاليم دينهم حق رعايتها ; ولهذا وجدت مع التربية الأوربية للنساء جراثيم الفساد ، ونمت هذه الجراثيم ، فتولدت منها الأدواء الاجتماعية ، والأمراض المدنية ، وقد ظهر أثرها بشدة في الدولة السابقة إليها ، وهي فرنسا فضعف نسلها ، وقلت مواليدها قلة تهددها بالانقراض ، والذنب في ذلك على الرجال .
حذر من مغبة هذه الأمراض العقلاء ، وحذر من عواقبه الكتاب الأذكياء ، وصرح من يعرف شيئا من الديانة الإسلامية بتمني الرجوع إلى تعاليمها المرضية ، وفضائلها الحقيقية ، وصرحوا بأن الرجل هو الذي أضل المرأة ، وأفسد تربيتها ، وأن بعض فضليات نساء الإفرنج صرحت بتمني تعدد الزوجات للرجل الواحد ليكون لكل امرأة قيم وكفيل من الرجال .
جاء في جريدة ( لاغوص ويكلي ركورد ) في العدد الصادر في 20 من إبريل ( نيسان ) سنة 1901 نقلا عن جريدة ( لندن ثروت ) بقلم كاتبة فاضلة ما ترجمته ملخصا :
لقد كثرت الشاردات من بناتنا ، وعم البلاء ، وقل الباحثون عن أسباب ذلك ، وإذا كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات ، وقلبي يتقطع شفقة عليهن ، وحزنا ، وماذا عسى يفيدهن بثي ، وحزني ، وتوجعي ، وتفجعي ، وإن شاركني فيه الناس جميعا ؟ لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ، ولله در العالم الفاضل (
تومس ) ، فإنه رأى الداء ، ووصف له الدواء الكافل للشفاء وهو ( الإباحة للرجل التزوج بأكثر من واحدة ) ، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة ، وتصبح بناتنا ربات بيوت ، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة ، فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد ، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال ، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة . أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلا ، وعالة ، وعارا على المجتمع الإنساني ؟ فلو كان تعدد الزوجات مباحا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون ، ولسلم عرضهن ، وعرض أولادهن ، فإن مزاحمة المرأة للرجل ستحل بنا الدمار ، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل ، وعليه
[ ص: 296 ] ما ليس عليها ، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت ، وأم أولاد شرعيين " .
ونشرت الكاتبة الشهيرة (
مس أني رود ) مقالة مفيدة في جريدة ( الاسترن ميل ) في العدد الصادر منها في 10 من مايو ( أيار ) سنة 1901 نقتطف منها ما يأتي لتأييد ما تقدم : " لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير ، وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل ، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد . ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة ، والعفاف ، والطهارة ردء ، الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش ، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ، ولا تمس الأعراض بسوء . نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها " .
وقالت الكاتبة الشهيرة (
اللادي كوك ) بجريدة ( ألايكو ) ما ترجمته ، وهو يؤيد ما تقدم : " إن الاختلاط يألفه الرجال ; ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا ، وهنا البلاء العظيم على المرأة ، فالرجل الذي علقت منه يتركها ، وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة ، والعناء ، وتذوق مرارة الذل ، والمهانة ، والاضطهاد ، بل والموت أيضا ، أما الفاقة فلأن الحمل وثقله ، والوحم ودواره من موانع الكسب الذي تحصل به قوتها ، وأما العناء فهو أنها تصبح شريرة حائرة لا تدري ماذا تصنع بنفسها ، وأما الذل والعار فأي عار بعد هذا ؟ وأما الموت فكثيرا ما تبخع المرأة نفسها بالانتحار وغبره .
هذا والرجل لا يلم به شيء من ذلك ، وفوق هذا كله تكون المرأة هي المسئولة ، وعليها التبعة مع أن عوامل الاختلاط كانت من الرجل .
" أما آن لنا أن نبحث عما يخفف - إذا لم نقل عما يزيل - هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية ؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقا تمنع قتل ألوف من الأطفال الذين لا ذنب لهم بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المحبوبة على رقة القلب المقتضي تصديق ما يوسوس به الرجل من الوعود ، ويمني به من الأماني حتى إذا قضى منها وطرا تركها وشأنها تقاسي العذاب الأليم .
" يا أيها الوالدان لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل ، ونحوها ، ومصيرهن إلى ما ذكرنا ، علموهن الابتعاد عن الرجال ، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد ، لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل الزنا يعظم ، ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال ، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل ، والخادمات في البيوت ، وكثير من السيدات المعرضات للأنظار ، ولولا الأطباء الذين يعطون
[ ص: 297 ] الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن ، لقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلون البنت زوجة ما لم تكن مجربة أي عندها أولاد من الزنا ينتفع بشغلهم ! ! وهذا غاية الهبوط بالمدنية ، فكم قاست هذه المرأة من مرارة هذه الحياة حتى قدرت على كفالتهم والذي علقت منه لا ينظر إلى أولئك الأطفال ، ولا يتعهدهم بشيء ، ويلاه من هذه الحالة التعيسة ، ترى من كان معينا لها في الوحم ودواره ، والحمل وأثقاله ، والوضع وآلامه ، والفصال ومرارته ؟ " اهـ .
ذلك ما قلناه في وجه الحاجة تارة والضرورة تارة إلى تعدد الزوجات ، ويزاد عليه ما علم منه ضمنا من كثرة النسل المطلوب شرعا ، وطبعا ، فإذا كان منع التعدد لاسيما في أعقاب الحروب ، وكثرة النساء يفضي إلى كثرة الزنا ، وهو مما يقلل النسل كان مما يليق بالشريعة الاجتماعية المرغبة في كثرة النسل والمشددة في منع الزنا أن تبيح التعدد عند الحاجة إليه لأجل ذلك مع التشديد في منع مضراته ، وقد صرح بعض علماء أوربا بأن تعدد الزوجات من جملة أسباب انتشار الإسلام في أفريقيا ، وغيرها ، وكثرة المسلمين ، ومهما كان من ضرر تعدد الزوجات فهو لا يبلغ ضرر قلة النسل الذي منيت به فرنسا بانتشار الزنا وقلة الزواج ، وستتبعها إنكلترا ، وغيرها من الأمم التي على شاكلتهما في التساهل في الفسق ، أما منع تعدد الزوجات إذا فشا ضرره ، وكثرت مفاسده ، وثبت عند أولي الأمر أن الجمهور لا يعدلون فيه في بعض البلاد لعدم الحاجة إليه بله الضرورة ، فقد يمكن أن يوجد له وجه في الشريعة الإسلامية السمحة إذا كان هناك حكومة إسلامية ، فإن للإمام أن يمنع المباح الذي يترتب عليه مفسدة ما دامت المفسدة قائمة به ، والمصلحة بخلافه ، بل منع
عمر ( رضي الله عنه ) في عام الرمادة أن يحد سارق ; ولذلك نظائر أخرى ليس هذا محل بيانها ، وللأستاذ الإمام فتوى في ذلك ذكرناها في الجزء الأول من تاريخه .
لكن الإفرنج يبالغون في وصف مفاسد التعدد ، وكذا المتفرنجون كدأب الناس في التسليم للأمم القوية ، والتقليد لها . وما قال الأستاذ الإمام ما قاله في التشنيع على التعدد إلا لتنفير الذواقين من المصريين وأمثالهم الذين يتزوجون كثيرا ، ويطلقون كثيرا لمحض التنقل في اللذة ، والإغراق في طاعة الشهوة مع عدم التهذيب الديني والمدني .
ألا إن التهذيب الذي يعرف به الإنسان قيمة الحياة الزوجية يمنع صاحبه التعدد لغير ضرورة ، فهذه الحياة التي بينها الله - تعالى - في قوله :
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ 30 : 21 ] قلما تتحقق على كمالها مع التعدد لاسيما إذا كان لغير عذر ; ولذلك يقل في المذهبين من يجمع بين زوجين ، وإنني لا أعرف أحدا من أصحابي في مصر وسورية له أكثر من زوج واحدة .
[ ص: 298 ] وقد صدق الأستاذ الإمام في قوله : إنه لو كان عندنا تربية إسلامية لقل ضرر التعدد فينا حتى لا يتجاوز غيرة الضرائر ، بل أعرف بالخبر الصادق ، والاختبار الشخصي أن بعض الضرائر المسلمات قد عشن معيشة الوفاق والمحبة ، وكانت كل واحدة تنادي الأخرى " يا أختي " ، وقد تزوج كبير قرية في لبنان فلم يولد له فتزوج بإذن الأولى ، ورضاها ابتغاء النسل فولدت له غلاما ، وكان يعدل بين الزوجين في كل شيء ، وكانتا متحابتين كالأختين ، وكل منهما تعتني بتربية الولد وخدمته ، بل قيل : إن عناية أمه به كانت أقل ، ومات الرجل عنهما فلم تتفرقا من بعده ، وما سبب ذلك إلا عدله وتدينهما . نعم إن الوفاق صار من النادر ، ويصدق على أكثر الضرائر قول الشاعر :
تزوجت اثنتين لفرط جهلي وقد حاز البلا زوج اثنتين فقلت أعيش بينهما خروفا
أنعم بين أكرم نعجتين فجاء الأمر عكس القصد دوما
عذاب دائم ببليتين لهذي ليلة ولتلك أخرى
نقار دائم في الليلتين رضا هذى يهيج سخط هذي
فلا أخلو من إحدى السخطتين
وللأستاذ الإمام مقالة في حكم تعدد الزوجات في الشريعة ، وشروطه ، ومضاره المشاهدة بمصر في هذا الزمان نشرها في جريدة الوقائع الرسمية في 9 من ربيع الآخر سنة 1298 ننشرها هنا استيفاء للبحث وهي .
( (
حكم الشريعة في تعدد الزوجات ) ) قد أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن ، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة قال - تعالى - :
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقها اختل نظام المنزل ، وساءت معيشة العائلة ، إذ العماد القويم لتدبير المنزل هو بقاء الاتحاد ، والتآلف بين أفراد العائلة . والرجل إذا خص واحدة منهن دون الباقيات ، ولو بشيء زهيد كأن يستقضيها حاجة في يوم الأخرى امتعضت تلك الأخرى ، وسئمت الرجل لتعديه على حقوقها بتزلفه إلى من لا حق لها ، وتبدل الاتحاد بالنفرة ، والمحبة بالبغض ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعة الصحابة - رضوان الله عليهم - والخلفاء الراشدون ، والعلماء ، والصالحون من كل قرن إلى هذا العهد يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله في العدل بينهن ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والصالحون من أمته لا يأتون حجرة إحدى الزوجات في نوبة الأخرى إلا بإذنها .
[ ص: 299 ] ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطاف به وهو في حالة المرض على بيوت زوجاته محمولا على الأكتاف حفظا للعدل ، ولم يرض بالإقامة في بيت إحداهن خاصة ، فلما كان عند إحدى نسائه سأل : في أي بيت أكون غدا ؟ فعلم نساؤه أنه يسأل عن نوبة
عائشة فأذن له في المقام عندها مدة المرض ، فقال : هل رضيتن ؟ فقلن : نعم ، فلم يقم في بيت
عائشة حتى علم رضاهن . وهذا الواجب الذي حافظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي ينطبق على نصائحه ، ووصاياه ، فقد روي في الصحيح أن آخر ما أوصى به - صلى الله عليه وسلم - ثلاث كان يتكلم بهن حتى لجلج لسانه ، وخفي كلامه الصلاة
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003177الصلاة ، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون ، الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم - أي أسراء - أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003178من كان له امرأتان فمال إلى إحداهن دون الأخرى - وفي رواية ، ولم يعدل بينهما - جاء يوم القيامة ، وأحد شقيه مائل وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتذر عن ميله القلبي بقوله : اللهم هذا - أي العدل في البيات والعطاء - جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك - يعني الميل القلبي - وكان يقرع بينهن إذا أراد سفرا .
وقد قال الفقهاء : يجب على الزوج
المساواة في القسم في البيتوتة بإجماع الأئمة ، وفيها ، وفي العطاء أعني النفقة عند غالبهم حتى قالوا : يجب على ولي المجنون أن يطوفه على نسائه . وقالوا لا يجوز للزوج الدخول عند إحدى زوجاته في نوبة الأخرى إلا لضرورة مبيحة غايته ، ويجوز له أن يسلم عليها من خارج الباب ، والسؤال عن حالها بدون دخول ، وصرحت كتب الفقه بأن الزوج إذا أراد الدخول عند صاحبة النوبة فأغلقت الباب دونه وجب عليه أن يبيت بحجرتها ، ولا يذهب إلى ضرتها إلا لمانع برد ونحوه . وقال علماء الحنفية : إن ظاهر آية
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أن العدل فرض في البيتوتة ، وفي الملبوس ، والمأكول ، والصحبة لا في المجامعة ، لا فرق في ذلك بين فحل وعنين ، ومجبوب ، ومريض وصحيح . وقالوا : إن
العدل من حقوق الزوجية ، فهو واجب على الزوج كسائر الحقوق الواجبة شرعا إذ لا تفاوت بينها . وقالوا : إذا لم يعدل ورفع إلى القاضي وجب نهيه ، وزجره ، فإن عاد عزر بالضرب لا بالحبس ; وما ذلك إلا محافظة على المقصد الأصلي من الزواج ، وهو التعاون في المعيشة ، وحسن السلوك فيها .
أفبعد الوعيد الشرعي ، وذاك الإلزام الدقيق الحتمي الذي لا يحتمل تأويلا ، ولا تحويلا يجوز الجمع بين الزوجات عند توهم عدم القدرة على العدل بين النسوة فضلا عن تحققه ؟ فكيف يسوغ لنا الجمع بين نسوة لا يحملنا على جمعهن إلا قضاء شهوة فانية ، واستحصال لذة وقتية غير مبالين بما ينشأ عن ذلك من المفاسد ومخالفة الشرع الشريف ، فإنا نرى أنه إن
[ ص: 300 ] بدت لإحداهن فرصة للوشاية عند الزوج في حق الأخرى صرفت جهدها ما استطاعت في تنميقها ، وإتقانها ، وتحلف بالله إنها لصادقة فيما افترت - وما هي إلا من الكاذبات - فيعتقد الرجل أنها أخلصت له النصح لفرط ميله إليها ، ويوسع الأخريات ضربا مبرحا ، وسبا فظيعا ، ويسومهن طردا ، ونهرا من غير أن يتبين فيما ألقى إليه ; إذ لا هداية عنده ترشده إلى تمييز صحيح القول من فاسده ، ولا نور بصيرة يوقفه على الحقيقة ، فتضطرم نيران الغيظ في أفئدة هاتيك النسوة ، وتسعى كل واحدة منهن في الانتقام من الزوج ، والمرأة الواشية ، ويكثر العراك ، والمشاجرة بينهن بياض النهار وسواد الليل ، وفضلا عن اشتغالهن بالشقاق عما يجب عليهن من أعمال المنزل يكثرن من خيانة الرجل في ماله وأمتعته لعدم الثقة بالمقام عنده ; فإنهن دائما يتوقعن منه الطلاق ; إما من خبث أخلاقهن ، أو من رداءة أفكار الزوج ، وأيا ما كان فكلاهما لا يهدأ له بال ، ولا يرق له عيش .
ومن شدة تمكن الغيرة والحقد في أفئدتهن تزرع كل واحدة في ضمير ولدها ما يجعله من ألد الأعداء لإخوته أولاد النسوة الأخريات ، فإنها دائما تمقتهم ، وتذكرهم بالسوء عنده ، وهو يسمع ، وتبين له امتيازهم عنه عند والدهم ، وتعدد له وجوه الامتياز ، فكل ذلك وما شابهه إن ألقي إلى الولد حال الطفولة يفعل في نفسه فعلا لا يقوى على إزالته بعد تعقله ، فيبقى نفورا من أخيه عدوا له ( لا نصيرا ، وظهيرا له على اجتناء الفوائد ودفع المكروه كما هو شأن الأخ ) .
وإن تطاول واحد من ولد تلك على آخر من ولد هذه - وإن لم يفعل ما لفظ إن كان خيرا ، أو شرا لكونه صغيرا - انتصب سوق العراك بين والدتيهما ، وأوسعت كل واحدة الأخرى بما في وسعها من ألفاظ الفحش ومستهجنات السب - وإن كن من المخدرات في بيوت المعتبرين - كما هو مشاهد في كثير من الجهات خصوصا الريفية ، وإذا دخل الزوج عليهن في هذه الحالة تعسر عليه إطفاء الثورة من بينهن بحسن القول ولين الجانب ; إذ لا يسمعن له أمرا ، ولا يرهبن منه وعيدا ; لكثرة ما وقع بينه وبينهن من المنازعات ، والمشاجرات لمثل هذه الأسباب ، أو غيرها التي أفضت إلى سقوط اعتباره ، وانتهاك واجباته عندهن ، أو لكونه ضعيف الرأي ، أحمق الطبع ، فتقوده تلك الأسباب إلى فض هذه المشاجرة بطلاقهن جميعا ، أو بطلاق من هي عنده أقل منزلة في الحب - ولو كانت أم أكثر أولاده - فتخرج من المنزل سائلة الدمع ، حزينة الخاطر ، حاملة من الأطفال عديدا فتأوي بهم إلى منزل أبيها إن كان ، ثم لا يمضي عليها بضعة أشهر عنده إلا سئمها ، فلا تجد بدا من رد الأولاد إلى أبيهم ، وإن علمت أن زوجته الحالية تعاملهم بأسوأ مما عوملوا به من عشيرة أبيها . ولا تسل عن أم الأولاد إذا طلقت ، وليس لها من تأوي إليه فإن شرح ما تعانيه من ألم الفاقة وذل النفس ليس يحزن
[ ص: 301 ] القلب بأقل من الحزن عند العلم بما تسام به صبيتها من الطرد ، والتقريع يئنون من الجوع ، ويبكون من ألم المعاملة .
ولا يقال : إن ذلك غير واقع ، فإن
الشريعة الغراء كلفت الزوج بالنفقة على مطلقته ، وأولاده منها حتى تحسن تربيتهم ، وعلى من يقوم مقامها في الحضانة إن خرجت من علتها وتزوجت . فإن الزوج وإن كلفته الشريعة بذلك لكن لا يرضخ لأحكامها في مثل هذا الأمر الذي يكلفه نفقات كبيرة إلا مكرها مجبورا ، والمرأة لا تستطيع أن تطالبه بحقها عند الحاكم الشرعي ، إما لبعد مركزه ، فلا تقدر على الذهاب إليه ، وتترك بنيها لا يملكون شيئا مدة أسبوع ، أو أسبوعين حتى يستحضر القاضي الزوج ، وربما آبت إليهم حاملة صكا بالتزامه بالدفع لها كل شهر ما أوجبه القاضي عليه من النفقة من غير أن تقبض منه ما يسد الرمق أو يذهب بالعوز ، ويرجع الزوج مصرا على عدم الوفاء بما وعد ; لكونه متحققا من أن المرأة لا تقدر أن تخاطر بنفسها إلى العودة للشكاية لوهن قواها ، واشتغالها بما يذهب الحاجة الوقتية ، أو حياء من شكاية الزوج ، فإن كثيرا من أهل الأرياف يعدون مطالبة المرأة بنفقتها عيبا فظيعا ، فهي تفضل البقاء على تحمل الأتعاب الشاقة طلبا لما تقيم به بنيتها هي وبنيها على الشكاية التي توجب لها العار ، وربما لم تأت بالثمرة المقصودة . وغير خفي أن ارتكاب المرأة الإثم لهذه الأعمال الشاقة ، ومعاناة البلايا المتنوعة التي أقلها ابتذال ماء الوجه تؤثر في أخلاقها فسادا ، وفي طباعها قبحا ; مما يذهب بكمالها ، ويؤدي إلى تحقيرها عند الراغبين في الزواج ، ولربما أدت بها هذه الأمور إلى أن تبقى أيما مدة شبابها تتجرع غصص الفاقة ، والذل ، وإن خطبها رجل بعد زمن طويل من يوم الطلاق فلا يكون في الغالب إلا أقل منزلة وأصغر قدرا من بعلها السابق ، أو كهلا قلت رغبة النساء فيه ، ويمكث زمنا طويلا يقدم رجلا ، ويؤخر أخرى خشية على نفسه من عائلة زوجها السالف ; فإنها تبغض أي شخص يريد زواج امرأته وتضمر له السوء إن فعل ذلك ، كأن مطلقها يريد أن تبقى أيما إلى الممات رغبة في نكالها ، وإساءتها إن طلقها كارها لها ، أما إذا كان طلاقها ناشئا عن حماقة الرجل لإكثاره من الحلف به عند أدنى الأسباب ، وأضعف المقتضيات - كما هو كثير الوقوع الآن - اشتد حنقه وغيرته عليها ، وتمنى لو استطاع سبيلا إلى قتلها ، أو قتل من يريد الاقتران بها .
وكأني بمن يقولون إن هذه المعاملة ، وتلك المعاشرة لا تصدر إلا من سفلة الناس ، وأدنيائهم ، وأما ذوو المقامات ، وأهل اليسار فلا نشاهد منهم شيئا من ذلك ، فإنهم ينفقون مالا لبدا على مطلقاتهم ، وأولادهم منها ، وعلى نسوتهم العديدات في بيوتهم ، فلا ضير عليهم في الإكثار من الزواج إلى الحد الجائز ، والطلاق إذا أرادوا ، بل الأجمل والأليق بهم
[ ص: 302 ] اتباعا لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919029تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة وأما ما يقع من سفلة الناس فلا يصح أن يجعل قاعدة للنهي عما كان عليه عمل النبي ، والسلف الصالح من الأمة خصوصا وآية :
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لم تنسخ بالإجماع ، فإذا يلزم العمل بمدلولها ما دام الكتاب .
نقول في الجواب عن هذا : كيف يصح هذا المقال ، وقد رأينا الكثير من الأغنياء وذوي اليسار يطردون نساءهم مع أولادهن ، فتربى أولادهن عند أقوام غير عشيرتهم لا يعتنون بشأنهم ، ولا يلتفتون إليهم ، وكثيرا ما رأينا الآباء يطردون أبناءهم ، وهم كبار مرضاة لنسائهم الجديدات ، ويسيئون إلى النساء بما لا يستطاع حتى إنه ربما لا يحمل الرجل منهم على تزوج ثانية إلا إرادة الإضرار بالأولى - وهذا شائع كثير - وعلى فرض تسليم أن ذوي اليسار قائمون بما يلزم من النفقات لا يمكننا إلا أن نقول كما هو الواقع: إن إنفاقهم على النسوة ، وتوفية حقوق الزوجية من القسم في المبيت ليس على نسبة عادلة كما هو الواجب شرعا على الرجل لزوجاته ، فهذه النفقة تستوي مع عدمها من حيث عدم القيام بحقوق الزوجات الواجبة الرعاية كما أمرنا به الشرع الشريف . فإذا لا تميز بينهم وبين الفقراء في أن كلا قد ارتكب ما حرمته الشرائع ونهت عنه نهيا شديدا ، خصوصا وأن مضرات اجتماع الزوجات عند الأغنياء أكثر منها عند الفقراء كما هو الغالب ; فإن المرأة قد تبقى في بيت الغني سنة ، أو سنتين بل ثلاثا بل خمسا بل عشرا لا يقربها الزوج خشية أن تغضب عليه ( من يميل إليها ميلا شديدا ) ، وهي مع ذلك لا تستطيع أن تطلب منه أن يطلقها لخوفها على نفسها من بأسه فتضطر إلى فعل ما لا يليق ، وبقية المفاسد التي ذكرناها من تربية الأبناء على عداوة إخوانهم بل وأبيهم أيضا موجودة عند الأغنياء أكثر منها عند الفقراء ، ولا تصح المكابرة في إنكار هذا الأمر بعد مشاهدة آثاره في غالب الجهات والنواحي ، وتطاير شره في أكثر البقاع من بلادنا وغيرها من الأقطار المشرقية .
فهذه معاملة غالب الناس عندنا من أغنياء ، وفقراء في حالة التزوج بالمتعددات ; كأنهم لم يفهموا حكمة الله في مشروعيته بل اتخذوه طريقا لصرف الشهوة ، واستحصال اللذة لا غير ، وغفلوا عن القصد الحقيقي منه ، وهذا لا تجيزه الشريعة ، ولا يقبله العقل . فاللازم عليهم حينئذ إما الاقتصار على واحدة إذا لم يقدروا على العدل - كما هو مشاهد - عملا بالواجب عليهم بنص قوله - تعالى - :
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة وأما آية :
فانكحوا ما طاب لكم من النساء فهي مقيدة بآية
فإن خفتم وإما أن يتبصروا قبل طلب التعدد في الزوجات فيما يجب عليهم
[ ص: 303 ] شرعا من العدل ، وحفظ الألفة بين الأولاد ، وحفظ النساء من الغوائل التي تؤدي بهن إلى الأعمال غير اللائقة ، ولا يحملوهن على الإضرار بهم وبأولادهم ، ولا يطلقوهن إلا لداع ومقتض شرعي شأن الرجال الذين يخافون الله ، ويوقرون شريعة العدل ، ويحافظون على حرمات النساء ، وحقوقهن ، ويعاشرونهن بالمعروف ، ويفارقونهن عند الحاجة ، فهؤلاء الأفاضل الأتقياء لا لوم عليهم في الجمع بين النسوة إلى الحد المباح شرعا ، وهم وإن كانوا عددا قليلا في كل بلد ، وإقليم لكن أعمالهم واضحة الظهور تستوجب لهم الثناء العميم ، والشكر الجزيل ، وتقربهم من الله العادل العزيز . انتهى كلام الأستاذ الإمام ، وفيه ما يجب فيه العدل بين الزوجات ، وسيأتي له مزيد بيان في تفسير :
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء [ 4 : 129 ] وجملة القول : أن التعدد خلاف الأصل وخلاف الكمال ، وينافي سكون النفس ، والمودة ، والرحمة التي هي أركان الحياة الزوجية ، لا فرق بين زواج من لم يقمها وبين ازدواج العجماوات ، ونزوان بعضها على بعض ، فلا ينبغي للمسلم أن يقدم على ذلك إلا لضرورة مع الثقة بما اشترط الله - سبحانه - فيه من العدل ، ومرتبة العدل دون مرتبة سكون النفس والمودة والرحمة ، وليس وراءه إلا ظلم المرء لنفسه ، وامرأته ، وولده ، وأمته ، والله لا يحب الظالمين .