صفحة جزء
ثم قال - سبحانه - : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم الحلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، ويقال للرجل : حليل ، واللفظ مأخوذ من الحلول ; فإن الزوجين يحلان معا في مكان واحد وفراش واحد ، وقيل : من الحل بالكسر ، أي كل منهما حلال للآخر ، وقيل : من حل الإزار ( بفتح الحاء ) ، ويدخل في الحلائل الإماء اللواتي يستمتع بهن ، واللفظ يصدق عليهن بكل معنى قيل في اشتقاقه . ويدخل في الأبناء أبناء الصلب مباشرة ، وبواسطة كابن الابن ، وابن البنت ، فحلائلهما تحرم على الجد . ولا يدخل فيه الابن من الرضاعة ; لأنه ليس من صلبه لا بالذات ، ولا بالواسطة فهو يخرج بهذا القيد بحسب المتبادر منه ، وبذلك قال بعض علماء الملة : ولكن المروي عن أئمة الفقه الأربعة - إلا ما روي من قول للإمام الشافعي - أن ابن الرضاع تحرم حليلته إما لدخوله في الأبناء هنا ، وجعل القيد لإخراج الدعي الذي يتبنى ، وإما لما تقدم من أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب . ورد عليهم الآخرون بأن حرمة امرأة الابن [ ص: 293 ] لا تحرم بالنسب ، وإنما تحرم بالمصاهرة ، فهذا حجة عليكم ، وبأن الدعي ليس ابنا فيحتاج إلى إخراجه لا حقيقة كما هو بديهي ، ولا شرعا ، ولا عرفا ، فإن الله - تعالى - لما أنزل : وما جعل أدعياءكم أبناءكم [ 33 : 4 ] بطل هذا العرف في الإسلام . قال الإمام ابن القيم في تقرير حجة المخالفين للمذاهب الأربعة في هذه المسألة ما نصه :

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فهو من أكبر أدلتنا ، وعمدتنا في المسألة ; فإن تحريم حلائل الآباء ، والأبناء إنما هو بالصهر لا بالنسب ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قصر تحريم الرضاع على نظيره من النسب لا على شقيقه وهو الصهر ، فيجب الاقتصار بالتحريم على مورد النص . ( قالوا ) : والتحريم بالرضاع فرع على تحريم النسب لا على تحريم المصاهرة ، فتحريم المصاهرة أصل قائم بذاته ، والله - سبحانه - لم ينص في كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب ، ولم ينبه على التحريم به من جهة الصهر ألبتة بنص ، ولا إيماء ، ولا إشارة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يحرم به ما يحرم من النسب ، وفي ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهر ، ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والصهر . ( قالوا ) : وأيضا فالرضاع مشبه بالنسب ، ولهذا أخذ منه بعض أحكامه ، وهو الحرمة ، والمحرمية فقط دون التوارث ، والإنفاق ، وسائر أحكام النسب ، فهو نسب ضعيف ، فأخذ بحسب ضعفه بعض أحكام النسب ، ولم يقو على سائر أحكام النسب ، وهي ألصق به من المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه ، وأما المصاهرة ، والرضاع فإنه لا نسب بينهما ، ولا شبهة نسب ، ولا بعضية ، ولا اتصال . ( قالوا ) : ولو كان تحريم الصهرية ثابتا لبينه الله ورسوله بيانا شافيا يقيم الحجة ، ويقطع العذر ، فمن الله البيان وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم ، والانقياد ، فهذا منتهى النظر في هذه المسألة ، فمن ظفر فيها بحجة فليرشد إليها ، وليدل عليها ; فإنا لها منقادون ، وبها معتصمون ، والله الموفق للصواب " انتهى كلامه رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية