وأحل لكم ما وراء ذلكم قرأ
حمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وحفص عن
عاصم ( وأحل ) بضم الهمزة بالبناء للمفعول ، وهو المناسب في المقابلة لقوله :
حرمت عليكم أمهاتكم ، [ 4 : 23 ) ( فيكون معطوفا عليه كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وقرأه الباقون بفتح الهمزة على البناء للفاعل ، فجعله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري معطوفا على " كتب " المقدرة الناصبة لقوله : كتاب الله ترجيحا لجانب اللفظ ولا مانع من عطفه على حرمت ، ومن المعلوم بالبداهة أن المحرم هناك هو المحلل هنا وهو الله عز وجل : والمراد بـ
ما وراء ذلكم المبين تحريمه هو ما لا يتناوله بلفظه ، ولا فحواه فهو لكونه لا يدخل فيه بنص ظاهر ، ولا قياس واضح ، جعل وراءه خارجا عن محيط مدلوله وإفادته ، فالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ليس وراءه كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير :
وأن تجمعوا بين الأختين ( 4 : 23 ) ، وكذلك كون محرمات الرضاع سبعا كمحرمات النسب .
[ ص: 7 ] الأستاذ الإمام : ذكر فيما مر من أكثر المحرمات من النساء ، وبقي من المحرمات بالرضاعة غير الأمهات والأخوات من المحرمات بالنسب ، ومثل
الجمع بين المرأة وعمتها ، أو خالتها ، وقد قال : إنه أحل لنا ما وراء ذلك ، فربما يقال : إنه يدخل فيه ما ذكر آنفا ونحوه من المحرم إجماعا أو بنصوص أخرى كالمطلقة ثلاثا ، والمشركة ، والمرتدة ! والجواب : أن بعض ما ذكر يؤخذ مما تقدم ; فإن الله تعالى قد ذكر من كل صنف من المحرمات بعضه ، فدخل في الأمهات الجدات ، وفي البنات بنات الأولاد إلخ ، وبعضها يؤخذ من آيات أخرى كتحريم المشركات والمطلقة ثلاثا على مطلقها في سورة البقرة ، وقد يقال : إن ما ذكر هنا من المحرمات مجمل بينته السنة ، والسر في النص على ما ذكر أنه كان واقعا شائعا في الجاهلية ، فهو يعلمنا بالنص على الواقع ألا نتعرض إلا للأمور الوجودية ، وأن الأمور المفروضة والمتخيلة لا ينبغي الالتفات لها ولا الاشتغال بها .
وأقول : إن هذا القول ينظر إلى ما تقدم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في تفسير :
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ( 4 : 22 ) ، فيكون ما بعد هذه الآية من التفصيل بيانا لها في التحريم والتحليل ، فلا يدخل فيها ما حرم لسبب آخر كتحريم المشركة ، وسواء أكان ما ذكر شائعا في الجاهلية أم لا ، فقد بين الله تعالى لنا هاهنا جميع ما يحرم علينا من أنواع القرابة والرضاعة والصهر ، وهو ما نحتاج إليه لذاته في كل زمان ومكان ، ولما قال بعد ذلك :
وأحل لكم ما وراء ذلكم فهم منه أنه يحل من هذه الأنواع كل ما لا يتناوله لفظ المحرمات بنص أو دلالة كبنات العم والخال ، وبنات العمة والخالة إلخ ، ولا يدخل في عمومه حل ما حرم في نصوص أخرى لسبب عارض يزول بزواله كنكاح المشركة والزانية والمرتدة ، مثال ذلك أن تقول للمتعلم عندما تقرأ له كتاب الطهارة : لا تلبس ثوبا متنجسا ، ثم تقول له عند قراءة كتاب اللباس : لا تلبس الحرير ولا المنسوج بالذهب أو الفضة والبس كل ما عداهما من الثياب فلا حرج عليك فيها ، فهل تدخل في عموم هذا القول الثوب المنجس ؟ لا . لا ، إن اللفظ العام يتناول كل ما يسمح له السياق ، والمقام أن يتناوله ، فإذا كان السياق في نوع له جنس أو أجناس بعضها أعلى من بعض فلا يفهم أحد من أهل اللغة خروج العام عن سياق النوع وتناوله جميع أفراد الجنس السافل أو العالي لذلك النوع ، فإذا قال صاحب البستان للفعلة الذين يقطعون الأشجار غير المثمرة لتكون خشبا : لا تقطعوا الشجر الصغير واقطعوا كل ما عداه من الأشجار الكبيرة فإنهم يفهمون أن مراده من الكلية أفراد ذلك النوع من الشجر الكبير لا جنس الشجر الكبير الذي يعم المثمر ، ومثل الثياب الذي أوردناه آنفا أشبه بما نحن فيه .
وقوله تعالى :
أن تبتغوا بأموالكم معناه : أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه
[ ص: 8 ] أو إرادة أن تبتغوه ، أي تطلبوه بأموالكم ، أو المعنى : أحله لكم أن تبتغوه ، أي أحل لكم طلبه بأموالكم تدفعونها مهرا للزوجة ، أو ثمنا للأمة وهو يقتضي أنه يجب قصد إحصان الأمة كما يجب قصد إحصان الزوجة لقوله :
محصنين غير مسافحين فإن الحال قيد للعامل ، وحذف مفعول محصنين ليفيد العموم ، أي محصنين أنفسكم ومن تطلبونها بما لكم باستغناء كل منكما بالآخر عن طلب الاستمتاع المحرم ; فإن الفطرة تسوق كل ذكر بداعية النسل إلى الاتصال بأنثى ، وكل أنثى إلى الاتصال بذكر ليزدوجا وينتجا ، والإحصان عبارة عن الاختصاص الذي يمنع هذه الداعية الفطرية أن تذهب كل مذهب ، فيتصل كل ذكر بأية امرأة واتته وكل امرأة بأي رجل واتاها ، بأن يكون غرض كل منهما المشاركة في سفح الماء الذي تفرزه الفطرة لإيثار اللذة على المصلحة ، فإن مصلحة البشر أن تكون هذه الداعية الفطرية سائقة لكل فرد من أفراد الجنسين ؛ لأن يعيش مع فرد من الجنس الآخر عيشة الاختصاص لتتكون بذلك البيوت ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما ، فإذا انتفى قصد هذا الإحصان انحصرت طاعة الداعية الفطرية في قصد سفح الماء ، وذلك هو الفساد العام الذي لا تنحصر مصائبه في مجموع الأمة ، وهذه أمة
فرنسا قد قل فيها النكاح وكثر السفاح بضعف الدين في عاصمتها (
باريس ) وأمهات مدنها ، فقل نسلها ، ووقف نماؤها ، وفتك النساء ، ومسن الرجال ، وضعفت الدولة فصارت دون خصمها حتى اضطرت إلى الاعتزاز بمحالفة دولة مضادة لها في شكل حكومتها ومدنيتها وهي الدولة الروسية ، ولولا الثروة الواسعة والعلوم الزاخرة والسياسة المبنية على أصول علم الاجتماع والعمران لأسرع إليها الهلاك كما أسرع إلى الأمم التي كثر مترفوها ففسقوا فيها فحق عليها القول الثابت في سنة الاجتماع فدمرها الله تدميرا ، وما أراها إلا أول دولة تسقط في
أوروبا إذا ظل هذا الكفر والفسق على هذا النماء فيها .
وقد خص بعض المفسرين قصد الإحصان بالرجال ، وخصه الأستاذ الإمام بالنساء ، فقال : معناه أن يقصد الرجل إحصان المرأة وحفظها أن ينالها أحد سواه ؛ ليكن عفيفات طاهرات ، ولا يكون التزوج لمجرد التمتع وسفح الماء وإراقته ، وهو يدل على بطلان النكاح الموقت وهو
نكاح المتعة الذي يشترط فيه الأجل اهـ ، وقد علمت أن اللفظ يفيد العموم وهو الذي تقتضيه الحكمة وتتم به المصلحة ، وإنما بين الأستاذ ما قصر فيه غيره من المفسرين ، ومعلوم أن الإحصان إنما يكون بإعطاء المرأة حقها من الاستمتاع فيجب ذلك على الرجل ولا يحل له تعمد التقصير فيه ولا سيما إذا كان سبب ذلك الفسق ; فإن في ذلك إفساد البيوت الذي يترتب عليه إفساد الأمة ، والفقهاء يقولون : إنه لا يجب عليه لمملوكته ما يجب عليه من ذلك لزوجته ، وهم متفقون على أنه يجب عليه منعها من الزنا ، فهل يكفي هذا المنع في إحصان الأمة دون إحصان الزوجة ، أم يقولون : إن شراء الإماء لأجل الاستمتاع لا يدخل في مفهوم قوله تعالى :
[ ص: 9 ] وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ، وإلا فكيف يصح قولهم ويكون موافقا للنص ومنطبقا على حكمة الشرع ؟
الحق أن الاسترقاق فيه مفاسد كثيرة ، وهو مناف لمحاسن الإسلام وحكمه العالية ، ولكنه قد كان مما عمت به البلوى بين الأمم ; فلذلك لم يمنعه منعا باتا ولكنه خفف مصائبه ومهد السبل لمنعه ، حتى إذا جاء وقت تقتضي فيه المصلحة العامة منعه مع عدم وجود مفسدة تعارض المنع وترجح عليه ، كان لأولي الأمر منعه ; فإن المصلحة أصل في الأحكام السياسية والمدنية يرجع إليه في غير تحليل المحرمات أو إبطال الواجبات ، وقد علمت أن
محل إباحة الاسترقاق الحرب الدينية التي يحاربنا فيها الكفار ، ونحاربهم لأجل ديننا كمنعنا من الدعوة إليه وإقامة شعائره وأحكامه ، وقد خير الله تعالى أولي الأمر منا في أسرى هذه الحرب لقوله :
فإما منا بعد وإما فداء ( 47 : 4 ) ، أي : فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوهم فضلا وإحسانا ، وإما أن تأخذوا منهم فداء
حتى تضع الحرب أوزارها ، ( 47 : 4 ) ، قال
البيضاوي : أي : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع ، أي : حتى تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم اهـ ، والمسالم من لا يحارب المسلمين لأجل دينهم ، فإذا جاز لنا أن نمن على الأسرى من الرجال المحاربين الذين يخشى أن يعودوا إلى حربنا ، أفلا يجوز لنا أن نمن على النساء اللاتي لا ضرر من إطلاقهن وقد يكون الضرر في استرقاقهن ؟ وناهيك بالتنفير عن الإسلام وتأريث الفتن بين أهله وسائر الأقوام ، فإن ضرره في هذا الزمان فوق كل ضرر ، ومفسدته شر من كل مفسدة .
هذا ولا بد من التنبيه هنا إلى مسألة يجهلها العوام ، وقد سكت عن بيان الحق فيها جماهير العلماء الأعلام ، ومرت على ذلك القرون لا الأعوام ، وقد سبق التنبيه إليه من قبل في المنار وهي أن الاسترقاق الشائع المعروف في هذا العصر أو العصور غير شرعي ، سواء ما كان منه في بلاد
السودان ، وما كان في بلاد البيض كبنات الشراكسة اللواتي كن يبعن في
الآستانة جهرا قبل الدستور وكلهن حرائر من بنات المسلمين الأحرار ، ومع هذا كنت ترى العلماء ساكتين عن بيعهن ، والاستمتاع بهن بغير عقد النكاح ، وذلك من أعظم المنكرات ، وحتى لو سألت الفقيه عن حكم المسألة بعد شرحها له لأفتاك بأن هذا الاسترقاق محرم إجماعا ، وربما قال لك : وإن مستحل ذلك يكفر ؛ لأنه لا يعذر بالجهل ، وعلل ذلك بما يعللون به مثله وهو أنه مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة .
وقد ذكرت هذه المسألة لأحد
أهل الآستانة وأنا أكتب هذا وسألته : هل بقي لهذا الرقيق الباطل أثر هنا بعد الدستور ؟ فقال : نعم ولكنه خفي وغير رسمي ، ويقال : إنه يوجد في
الحجاز أيضا ، وماذا يمكن أن نعمل وراء بيان حرمة هذا العمل وبراءة الإسلام منه !