قال
البقاعي : ولما كان المال عديل الروح ، ونهى عن إتلافه بالباطل ، نهى عن
إتلاف النفس لكون أكثر إتلافهم لهما بالغارات لنهب الأموال ، وما كان بسببها أو تسببها ، على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل ، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل ، فقال تعالى :
ولا تقتلوا أنفسكم إلخ ، أقول : ظاهر هذه الجملة وحدها أن النهي إنما هو عن
قتل الإنسان لنفسه وهو الانتحار ، والمتبادر منها في هذا الأسلوب أن المراد : لا يقتل بعضكم بعضا ، وهو الأقوى ، واختير هذا التعبير للإشعار بتعاون
الأمة وتكافلها ووحدتها كما تقدم في نكتة التعبير عن أكل بعضهم مال بعض بقوله :
لا تأكلوا أموالكم وجمع بعضهم في النهي عن القتل بين الأمرين فقال : أي لا تقتلوها حقيقة بالانتحار ولا مجازا بقتل بعضكم لبعض ، ولم يقولوا مثل هذا في النهي عن أكل أموال أنفسهم بالباطل ، على أن المعنى يكون في نفسه صحيحا فإن النفقات بالباطل محرمة شرعا ; لأنها من إضاعة المال في غير منفعة حقيقية ، وقد تقدم ما يؤيد ذلك في تفسير قوله تعالى :
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ( 4 : 5 ) ، [ راجع ص 39 ط الهيئة العامة للكتاب ] ، وكل المحرمات في الإسلام ترجع إلى الإخلال
بحفظ الأصول الكلية الواجب حفظها بالإجماع ، وهي : الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ،
[ ص: 37 ] والمال ، والنسب ، وعللوا التعبير عن قتل الإنسان لغيره بقتله لنفسه بأنه لما كان يفضي إلى قتله قصاصا أو ثأرا كان كأنه قتل لنفسه ، وقالوا مثل هذا القول في تفسير قوله تعالى في خطاب
بني إسرائيل :
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ( 2 : 84 ، 85 ) ، الآية ، حتى إنهم قالوا في قوله تعالى
لبني إسرائيل :
فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ( 2 : 54 ) ، إن المعنى ليقتل كل منكم نفسه بالبخع والانتحار أو أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ، وقال بعضهم : إن المراد بالقتل هنالك قطع الشهوات ، كما قيل : من لم يعذب نفسه لم ينعمها ، ومن لم يقتلها لم يحيها ، وقيل : إن المعنى هنا : لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من يغلب على ظنكم أنهم يقتلونكم ، ومن نظر في مجموع الآيات الواردة في هذا المعنى وراعى دلالة النظم والأسلوب يجزم بأن المراد بقتل الناس أنفسهم هو قتل بعضهم لبعض ، وأن النكتة في التعبير هي ما تقدم بيانه من
وحدة الأمة حتى كأن كل فرد من أفرادها هو عين الآخر ، وجنايته عليه جناية على نفسه من جهة ، وجناية على جميع الأفراد من جهة أخرى ، بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية بقوله عز وجل :
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ( 5 : 32 ) ، وإذا كان يرشدنا بأنه يجب علينا أن نحترم نفوس الناس بعدها كنفوسنا فاحترامنا لنفوسنا يجب أن يكون أولى ، فلا يباح بحال من الأحوال أن يقتل أحد نفسه كأن يبخعها ليستريح من الغم وشقاء الحياة ، فمهما اشتدت المصائب على المؤمن فإنه يصبر ويحتسب ، ولا ينقطع رجاؤه من الفرج الإلهي ; ولذلك نرى بخع النفس ( الانتحار ) يكثر حيث يقل الإيمان ، ويفشو الكفر والإلحاد ، ومن فوائد الإيمان
مدافعة المصائب والأكدار ، فالمؤمن لا يتألم من بؤس الحياة كما يتألم الكافر ، فليس من شأنه أن يبخع نفسه حتى ينهى عن ذلك نهيا صريحا .
إن الله كان بكم رحيما أي : إنه كان بنهيه إياكم عن
أكل أموالكم بالباطل ، وعن قتل أنفسكم رحيما بكم ; لأن في ذلك حفظ دمائكم وأموالكم التي هي قوام مصالحكم ومنافعكم فيجب أن تتراحموا فيما بينكم ويكون كل منكم عونا للآخرين على حفظ النفس ومدافعة رزايا الدهر .
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ، قال الأستاذ الإمام : ذهب بعض المفسرين إلى أن المشار إليه في قوله : ذلك كل ما تقدم النهي عنه من أول السورة إلى الآية السابقة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : إن المشار إليه هو ما نهى عنه من قوله تعالى :
[ ص: 38 ] يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ( 4 : 19 ) ، إلى هنا ، وذلك أن المنهيات التي قبل تلك الآية قد اقترنت بالوعيد عليها على حسب سنة القرآن ولكن هذه المنهيات الأخيرة لم يوعد عليها بشيء وإن وصفت بالقبح الذي يترتب عليه الوعيد ـ وهي النهي عن إرث النساء كرها ، وعن عضلهن لأخذ شيء من مالهن ، وعن
نكاح ما نكح الآباء في الجاهلية ، وعن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن القتل ـ وقال بعضهم : إن المشار إليه في هذه الآية هو القتل فقط ، وقد قصر كل التقصير ، وأكثر المفسرين على أن المراد بذلك ما في الآية الأخيرة من النهي عن أكل أموال الناس بالباطل وعن القتل ، وهذا هو المعقول المقبول فإن ما قبلها من المنهيات التي لم تقترن بالوعيد قد اقترنت بالوصف الدال عليه .
( قال ) والعدوان : هو التعدي على الحق فكأنه قال بغير حق ، وهو يتعلق بالقصد ، فمعناه أن يتعمد الفاعل إتيان الفعل وهو يعلم أنه قد تعدى الحق ، وجاوزه إلى الباطل ،
والظلم يتعلق بالفعل نفسه بأن كان المتعدي لم يتحر ويجتهد في استبانة ما يحل له منه فيفعل ما لا يحل ، والوعيد مقرون بالأمرين معا ، وهما أن يقصد الفاعل العدوان ، وأن يكون فعله ظلما في الواقع ، ونفس الأمر ، فإذا وجد أحدهما دون الآخر لا يستحق هذا الوعيد الشديد ، مثال تحقق العدوان دون الظلم أن يقتل الإنسان رجلا يقصد الاعتداء عليه ، ثم يظهر له أنه كان راصدا له يريد قتله ، ولو لم يسبقه لقتله ، أو أنه كان قتل من له ولاية دمه كأصله أو فرعه ، فهاهنا لم يتحقق الظلم ، وأما العدوان فواقع لا محالة ، ومثال تحقق الظلم فقط أن يسلم امرؤ مال آخر ظانا أنه ماله الذي كان سرقه أو اغتصبه منه ، ثم يتبين له أن المال ليس ماله ، وأنه لم يكن هو الذي أخذ ماله ، وأن يقتل رجلا رآه هاجما عليه فظن أنه صائل يريد قتله ثم يتبين له خطأ ظنه ، فهاهنا تحقق الظلم ولكن لم يتحقق العدوان ، أقول :
وقد يعاقب الإنسان على بعض الصور التي لا تجمع بين العدوان والظلم معا لتقصيره في استبانة الحق ، ولكن عقاب من يجمع بينهما ، وإصلاءه النار إدخاله فيها وإحراقه بها ، وأصله من الصلي وهو القرب من النار للاستدفاء ، قال الراجز :
يقعي جلوس البدوي المصطلي
، أي : المستدفئ ، وتتمة هذا البحث اللغوي في تفسير الآية التاسعة من هذه السورة [ ص 284 ج 4 ط الهيئة العامة للكتاب ] .
وكان ذلك على الله يسيرا أي : أن ذلك الوعيد البعيد شأوه ، الشديد وقعه ، يسير على الله غير عسير ، وقريب من العادين الظالمين غير بعيد ؛ لأن سنته قد مضت بأن يكون العدوان والظلم مدنسا للنفوس مدسيا لها بحيث يهبط بها في الآخرة ، ويرديها في الهاوية ، وقال الأستاذ الإمام : إن معنى كونه يسيرا على الله تعالى هو أن حلمه في الدنيا على المعتدين الظالمين وعدم معاجلتهم بالعقوبة لا يقتضي أن ينجو من عقابه في الآخرة ، وهذا الذي قاله لا ينافي ما قلناه ، بل هو تنبيه إلى موضع العبرة ، أي : فلا يغترن الظالمون بعزتهم وقوتهم على من يظلمونهم
[ ص: 39 ] ولا يقيسن الآخرة على الدنيا فيكونوا كأولئك المشركين الذين قالوا فيما حكى الله عنهم :
نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ( 34 : 35 ) ، بل يجب ألا يأمنوا تقلب الدنيا وغيرها ولا ينخدعوا بقول الشاعر :
لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي