والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس قال الأستاذ : الرئاء يخفف فيقال : الرياء مصدر راءى كالمراءاة والجملة عطف على
الذين يبخلون وأعيد الموصول للدلالة على المغايرة في الأصناف كقوله تعالى :
والذين إذا فعلوا فاحشة ( 3 : 135 ) ، من سورة آل عمران ، أي أن مانعي الإحسان من أهل الفخر والخيلاء صنفان : صنف يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم وصنف يبذلون المال لا شكرا لله على نعمته ، واعترافا لعباده بحقوقهم ، بل ينفقونه رئاء الناس ، أي : مرائين لهم يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم ، فالمرائي لا يقصد بإنفاقه إلا الفخر على الناس بكبريائه ، وإشراع الطريق لخيلائه ، فإنفاقه أثر تلك الملكة الرديئة ، والكبرياء كما تكون من شيء في نفس الشخص تكون أيضا بما يكون له من المال والعرض ، فإنك لترى الرجل يمشي ينظر إلى عطفيه ويفكر في نفسه
[ ص: 82 ] هل هو محل الإعجاب والتعظيم من الناس أم لا ؟ ـ والمرجح عنده نعم على لا ـ وشر هذا دون شر البخيل ، فإن هذا يحمل الناس على قبول اختياله وفخره في مقابلة شيء يبذله لهم ، فكأنه رأى لهم شيئا من الحق عليه وهو بدل التعظيم والثناء الذي يطلبه برئائه ، وأما البخيل تعظيمه ومدحه لأجل ماله ـ وماله في الصندوق مكتوم عنهم ـ فهو شر من المرائي بلا شك ; ولذلك قدم ذكر البخلاء اهتماما بهم ؛ لأنهم أعرق في تلك الرذيلة وآثارها ، والمرائي في الحقيقة بخيل لا يرى لأحد عليه حقا ولكنه يتوهم أنه صاحب الفضل على الناس ; ولذلك يخص ببذله في الغالب من لا حق لهم عنده ، ويبخل على أرباب الحقوق المؤكدة حتى على زوجه وولده وخادمه ، وعلى الأقربين حتى الوالدين ، ولا يتحرى في إنفاقه مواضع النفع العام ولا الخاص ، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح وإن كان الإنفاق هنالك ضارا كالمساعدة على الفسق أو الفتن ، فهو تاجر يشتري تعظيم الناس له وتسخيرهم لقضاء حاجه والقيام بخدمته .
أقول : إن ما يبينه الأستاذ الإمام هنا هو الرياء الحقيقي الممقوت عند الله وعند خيار عباده ، ويقول علماء الأخلاق الدينية : إن للرياء أنواعا ومراتب ، وإن منها أن يبذل المال لمستحقه امتثالا لأمر الله تعالى وقياما بالحق وإيثارا للخير ، وقد يخفيه ، ولكنه يحب أن يحمد على ذلك إذا عرف ، ويعدون الرياء من الشرك الخفي ، ويقولون : إن منه ما هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء كهذا المثال الذي ذكرناه ، وإنما هذا من قبيل ما يحاسب عليه أنفسهم الصديقون ، ويقال في مثله : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، والحق أن من جاء بالإحسان لأنه إحسان فهو مرضي عند الله نافع للناس ، فلا يضيره حبه أن يحمد بما فعل ، وإن كان عدم المبالاة بذلك لذاته أكمل ، وقد بينت ذلك بالتفصيل في تفسير :
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ( 3 : 188 ) ، الآية فراجعه في ص [ 235 - 242 من الجزء الرابع من التفسير ] ، أو في المنار .
الأستاذ الإمام : ثم وصف الله تعالى هؤلاء المجرمين المرائين بقوله :
ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وهو من عطف السبب على المسبب والعلة على المعلول ، ذلك بأن المرائي يثق بما عند الله ، ويرجح التقرب إليهم على التقرب إليه ، ويؤثر ما عندهم من المدح وتوقع النفع على ما أعده الله في الآخرة على الإيمان وعمل الصالحات فالله في نظره المظلم أهون من الناس ، فهل يعد مثل هذا مؤمنا بالله إيمانا حقيقيا ، مؤمنا باليوم الآخر كما يجب ؟ أم يكون إيمانه تخيلا كتخيل الشعراء ، وقولا كقول الصبيان : والله ما فعلت كذا ، فالواحد منهم ينطق باسم الله ويؤكد باسمه الكريم الكلام ، وهو لا يعرف الله ، وإنما
[ ص: 83 ] يسمع الناس يقولون قولا فيقلدهم بما يحفظ منه ، لا يعرف أنه هو موجد الكائنات ، النافذ علمه وقدرته بما في الأرض والسماوات ، فهل يكون مثل هذا مؤمنا بالله واليوم الآخر ؟ كلا إنه لو كان مؤمنا باليوم الآخر موقنا بأن له هنالك حياة أبدية لا نهاية لها ، لما فضل عليها عرض هذه الحياة القصيرة التي لا قيمة لها .
ومن آيات
الفرق بين المخلص والمرائي أن المرائي يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى ، وما فعل ، والمخلص قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كأن يرغب بعض الناس في البذل ، فيقول للغني مثلا : إنني على فقري أو على قدر حالي قد أعطيت في مصلحة كذا كذا درهما أو دينارا ، فاللائق بك أن تبذل كذا .
وأقول : إن من شأن الكافر الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ألا يبذل مالا ، ولا يعمل عملا صالحا إلا بقصد الرياء والسمعة ; لأنه ليس له وراء حظوظ هذه الدنيا أمل ، ولا مطلب ، والمؤمن ليس كذلك فإن وقع الرياء من مؤمن فإنما يقع من ضعيف الإيمان قليلا ، ولا يكون كل عمل المؤمن كذلك بل يكون ذلك إلماما يندم عليه صاحبه ويسرع إلى التوبة ، وإلا كان كافرا مجاهرا ، أو منافقا مخادعا ، وسيأتي شيء من تحقيق هذا البحث في تفسير قوله تعالى في هذه السورة :
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 142 ) .