إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا .
قال
البقاعي في نظم الدرر مبينا وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها : ولما فرغ من توبيخهم قال معللا له : إن الله إلخ ، وقال
الرازي : اعلم أن تعلق هذه الآية بقوله تعالى :
وماذا عليهم لو آمنوا إلخ ، فكأنه قال : فإن الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ، فرغب بذلك في الإيمان والطاعة اهـ .
وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : بعد ما بين تعالى صفات المتكبرين وسوء حالهم وتوعدهم على ذلك ، أراد أن يزيد الأمر تأكيدا ووعيدا ، فبين أنه لا يظلم أحدا من العاملين بتلك الوصايا قليلا أو كثيرا بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم ، فالآية تتميم لموضوع الأوامر السابقة وترغيب للعاملين في الخير كما قال في سورة الزلزلة :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( 99 : 7 ) ، إلخ ، فمن سمع هذه الآية تعظم رغبته في الخير ، ورجاؤه في الله تعالى .
( قال ) : وللعابثين بالكتاب وبعقائد الناس كلام في الآية ، وأقاموه على أساس مذاهبهم فمن ذلك قول
المعتزلة : إنه يجوز الظلم على الله تعالى ( عقلا ) لأنه لو لم يكن جائزا لما تمدح بنفيه ، ورد عليهم الآخرون ، بأنه تعالى نفى عن نفسه السنة والنوم ، وأنتم متفقون معنا على استحالة ذلك عليه ، فردوا عليهم بأن نفي الظلم كلام في أفعاله ، ونفي النوم كلام في صفاته
[ ص: 86 ] وفرق بينهما ، وهذا كله من الجدل الباطل والهذيان ، وإدخال الفلسفة في الدين بغير عقل ولا بيان ، ومثله قول بعض المنتمين إلى السنة بجواز تخلف الوعيد ولا يعد ذلك ظلما ؛ لأن الظلم لا يتصور منه تعالى ، وبلغ بهم الجهل من تأييد هذا الرأي إلى تجويز الكذب على الله تعالى وجعلوا هذا نصرا للسنة ، والذي قذف بهؤلاء في هذه المهاوي هو الجدل والمراء لتأييد المذاهب التي تقلدوها ، والتزام كل فريق تفنيد الآخر وإظهار خطئه لا طلب الحق أينما ظهر ، ولهم مثل هذه الجهالات الكثير البعيد عن كتاب الله ودينه ، كقول
المعتزلة : إن بعض الأشياء حسن لذاته وبعضها قبيح لذاته ، ويجب على الله تعالى أن يفعل الأصلح من الأمرين الجائزين ، وكقول بعض من لم يفهم مسألة أفعال العباد بما يدل على جواز العبث على الله تعالى وكل هذا جهل .
( قال ) : والذي يفهم من الآية أن هناك حقيقة ثابتة في نفسها وهي الظلم ، وأن هذا لا يقع من الله تعالى ؛ لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم ، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها ، وعقولا يهتدون بها إلى ما لا يدركه الحس ، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم ، وجعل فوائد الدين وآدابه سائقة إلى الخير صارفة عن الشر لتأييدها بالوعد والوعيد ، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه وترتبت عليه عقوبته كان هو الظالم لنفسه ؛ لأن الله لا يظلم أحدا .
قال : ونفي الظلم هاهنا على إطلاقه يشمل المؤمن والكافر ، والذرة فيه عبارة عن منتهى الصغر في الأجسام ، وقيل : الذر : الهباء ، وقيل : النمل الصغير الأحمر ، أو الذرة : رأس النملة الصغيرة ، وأظهر من هذه الآية في العموم :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إلخ ، وقد قدر مفسرنا (
الجلال ) في الآية هنا ( أحدا ) للإشارة إلى العموم ، ولكن ورد في الكافرين ما يدل على أنهم لا أثر لعملهم في الآخرة كقوله :
أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ( 18 : 105 ) ، وقوله في عملهم :
فجعلناه هباء منثورا ( 25 : 23 ) ، وقد قال بعضهم في الجمع : إن الله يجازيهم على أعمالهم في الدنيا ، وهذا تأويل لا يأتي في سورة الزلزلة ؛ لأن الكلام فيها خاص بيوم القيامة ، وقال بعضهم غير ذلك ، كل يحمل الآية على مذهبه كما هي عادة المقلدين في جعل مذاهبهم أصلا ، والقرآن العزيز فرعا يحمل عليها ، ولو بالتأويل السقيم والتحريف البعيد .
قال : ومن العجب أن يقول قائل بهذه التأويلات ، وقد ورد في الأحاديث المسلمة عند قائليها أن بعض المشركين يخفف عنه العذاب بعمل له ،
حاتم بكرمه ،
وأبو طالب بكفالته النبي ونصره إياه ، بل ورد حديث بالتخفيف عن
أبي لهب لعتقه
ثويبة حين بشر بالنبي
[ ص: 87 ] ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا
وأبو لهب هو الذي نزل فيه :
تبت يدا أبي لهب ( 111 : 1 ) ، إلخ ، السورة ، فالمعنى الصحيح إذن للآيات هو أن الله لا يقيم وزنا للمشرك في مقابلة شركه ، بمعنى أنه لا يقابل الشرك عمل صالح فيمحوه ، بل الأعمال الصالحة بإزاء الشرك هباء ، ولكن المشرك العاصي أشد عذابا من المشرك المحسن ، ولا يعقل أن يكون المحسن والمسيء عنده تعالى سواء ، فإن هذا من الظلم المنفي بلا شك .
أقول : المثقال ـ مفعال من الثقل ـ المقدار الذي له ثقل مهما قل ، وأطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره وهو معروف ، والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام كما اختار الأستاذ الإمام ، وما أطلق على النملة وعلى رأسها وعلى الخردلة ، وعلى الدقيقة من دقائق الهباء وهو ما يظهر في نور الشمس الداخل من الكوى ـ إلا لبيان مكان صغر هذه الأشياء ; ولذلك روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في الذرة روايتان مختلفتان ، روي عنه أنها رأس النملة ، وروي عنه أنه أدخل يده في التراب ، ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة ، وروي أن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود قرأ : " إن الله لا يظلم مثقال نملة " ، وقد بينا من قبل أن مثل هذه القراءة لا يقصد بها القرآن ، وإنما يقصد بها التفسير ، والظلم معناه في الأصل النقص كما قال تعالى في سورة الكهف :
كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ( 18 : 33 ) ، فمعنى قوله تعالى :
إن الله لا يظلم مثقال ذرة أن الله تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ، والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء ، بل يوفيه أجره ، ولا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة ، وقد بينا معنى نفي الظلم عن البارئ في مواضع التفسير وفي المنار ، منها تفسير :
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 3 : 182 ) ، فيراجع في ص 218 وتفسير :
ما للظالمين من أنصار ( 3 : 192 ) ، في ص 247 من ذلك الجزء أيضا ، ولا أذكر غيرها الآن ، ومما يوضح هذا المعنى في التفسير الكلام في الجزاء وموازين الأعمال ، ولا تفهم هذه الآية حق الفهم إلا باستبانة ما حققناه غير مرة في معنى الجزاء وكون الثواب والعقاب تابعين لتأثير أعمال الإنسان في نفسه بالتزكية أو التدسية ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ويؤيد بعضه بعضا ، وما أخطأ كثير من العلماء في فهم كثير من الآيات إلا لذهولهم عن مقارنة الآيات المتناسبة بعضها ببعض ، واستبدالهم بذلك تحكيم الاصطلاحات والقواعد التي وضعها علماء مذاهبهم ، وإرجاع الآيات إليها وحملها عليها ، فهذا يستشكل نفي الظلم عن الله عز وجل ; لأن العبيد لا يستحقون عنده شيئا من الأجر ، فيكون منعه أو النقص منه ظلما ، ثم يجيب عن ذلك بأنه بالنسبة إلى الوعد فهو قد وعد بإثابة المحسن ، وأوعد بعقاب المسيء ، ثم جعلوا جواز تخلف الوعد أو الوعيد محل بحث وجدال أيضا ، وهذا يقول : إن إثابة المحسن وعقاب المسيء أمر حسن في ذاته موافق
[ ص: 88 ] للحكمة ، فهو واجب عليه تعالى أو واجب في حقه كما يجب له كل كمال ، ويستحيل عليه كل نقص ، فقام الآخرون يجادلونهم على لفظ " يجب عليه " ولعلهم قالوا : " يجب له " فحرفوها ، ومهما قالوا فالمقصد واحد وهو إثبات الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص ، وأكثر الجدل الذي أهلك المسلمين وفرقهم شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض كان مبنيا على المشاحة في الألفاظ والاصطلاحات ، وكتاب الله ودينه يتبرأ من ذلك وينهى عنه ، ومن فهم من مجموع القرآن ما قررناه مرارا في مسألة الجزاء يفقه معه نفي الظلم عليه تبارك اسمه وتعالى جده ، فلكل عمل أثر في نفس العامل يرفع نفسه بالحق والخير إلى عليين ، أو يهبط بها إلى سافلين ، ولذلك درجات ومثاقيل مقدرة في نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شيء علما .