ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا أي : ويقول هؤلاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، روي عن
مجاهد أنهم قالوا : سمعنا قولك ، ولكن لا نطيعك ، ويقولون له أيضا : اسمع غير مسمع ، قال المفسرون : إن هذا دعاء عليه ، ولكن زاده الله تكريما وتشريفا ، ومعناه : لا سمعت أو لا أسمعك الله ، وهذا في مكان الدعاء المعتاد من المتأدبين للمخاطب : لا سمعت مكروها ، أو لا سمعت أذى ، وقيل : معناه : غير مقبول ما تقول ، وهذا مروي عن مجاهد ، وقال الأستاذ الإمام : يحتمل أن يكون المعنى : واسمع شيئا لا يستحق أن يسمع ، وأما " راعنا " فقد روي أن
اليهود كانوا يتسابون بكلمة " راعينا " العبرانية أو السريانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : راعنا ، من المراعاة أو بمعنى أرعنا سمعك فافترصوها وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر :
ليا بألسنتهم وطعنا في الدين فيجعلونها في الظاهر راعنا وبلي اللسان وإمالته " راعينا " ينوون بذلك الشتم والسخرية ، أو جعله راعيا من رعاء الشاء ، أو من الرعن والرعونة ، قال في الكشاف : ( فإن قلت ) : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا ، وقالوا سمعنا وعصينا ؟ ( قلت ) : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز ألا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به اهـ ، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير :
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ( 2 : 104 ) ، من سورة البقرة وبينا هنالك أن الأستاذ الإمام لم يرتض ما قالوه في كون هذه الكلمة سبا بالعبرانية ، واختار في تعليل النهي عنها أنها لما كانت من المراعاة ، وهي تقتضي المشاركة ـ نهوا عنها تأديبا لهم ، إذ لا يليق أن يقولوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
[ ص: 116 ] ارعنا نرعك ، كما هو معنى المشاركة ، كما نهوا أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ( قال ) : وهناك وجه آخر ، يقال في اللغة : راعى الحمار الحمر ، إذا راعى معها ، فكان
اليهود يحرفون الكلم إلى هذا المعنى ، وإن كان فيها سب لأنفسهم على حد : " اقتلوني ومالكا " ، ومن تحريف الكلام وليه في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم في التحية " السام عليكم " يوهمون بفتل اللسان وجمجمته أنهم يقولون : السلام عليكم ، وقد ثبت هذا في الصحيح ، وأنه كان ـ عليه السلام ـ بعد العلم بذلك يجيبهم بقوله : " وعليكم " أي كل أحد يموت .
ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ، أي : لو أنهم قالوا : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، واسمع ما نقول وانظرنا أي : أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا ، يقال : نظره بمعنى انتظره ، وهو كثير في القرآن أو انظر إلينا نظر رعاية ورفق :
لكان خيرا لهم أقوم ، مما قالوه لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة .