أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، الأستاذ الإمام : سبق في الآيات قبل هذه أن
اليهود حكموا بأن المشركين أهدى سبيلا من المؤمنين ، وذلك من الحسد والغرور بأنفسهم ؛ فإنهم يقولون ذلك مع أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت ، فهم في شر حال ، ويعيبون من هم في أحسن حال ، فالله تعالى يقول : إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده ، ولا يحبون أن يكون لأمة من الأمم فضل أكثر مما لهم أو مثله أو قريب منه لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم ، فكأنه قال : هل غرر هؤلاء بأنفسهم تغريرا ، أم لهم نصيب من الملك في هذا الكون فهم يمنعون الناس ، فلا يؤتونهم منه نقيرا ، أم يحسدون الناس على ما أعطاهم الله من فضله ؟ أي : العرب
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده
إسماعيل ، وقد كانت ظهرت تباشير الملك العظيم فيهم عند نزول هذه الآيات ; فإنها مدنية متأخرة ، وكانت شوكة المسلمين قد قويت ، فالآية مبشرة لهم بالملك الذي يتبع النبوة والحكمة ، والحاصل أن حال
اليهود يومئذ كان لا يعدو هذه الأمور الثلاثة : إما غرور خادع يظنون معه أن فضل الله محصور فيهم ، ورحمته تضيق عن غير
شعب إسرائيل من خلقه ، وإما حسبان أن ملك الكون في أيديهم فهم لا يسمحون لأحد بشيء منه ولو حقيرا كالنقير ، وإما حسد العرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئ عظمته ، انتهى ما قاله في الدرس ، وليس عندنا عنه في ذلك غيره .
وأقول : فسروا
الحسد بأنه تمني زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها ، ولم يرد ذكره
[ ص: 131 ] في القرآن إلا في هذه الآية ، وفي قوله من سورة البقرة :
كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ( 2 : 109 ) ، وفي سورة الفلق ،
وأهل الكتاب في آية البقرة هم
اليهود ، فهو لم يسند الحسد إلى غيرهم ; لأنهم ـ وقد سلب منهم الملك ـ يتمنون عودته إليهم وقد كبر عليهم أن تسبقهم العرب إلى ذلك ، ولم يكن
النصارى يومئذ يحسدون المسلمين ؛ لأنهم متمتعون بملك واسع ، ولا مشركو العرب ؛ لأنهم ما كانوا يظنون أن النبوة التي قام بها واحد منهم حق ، ولا أنها تستتبع ملكا ؛ فإن من ظهر له حقية الدعوة صار مسلما ، وأما
اليهود فإنه لم يؤمن ممن ظهرت لهم حقية دعوة الإسلام إلا نفر قليل ، ومنع الحسد باقي الرؤساء أن يؤمنوا وتبعهم العامة تقليدا لهم ، وقلما يمنع الناس من اتباع الحق بعد ظهوره لهم مثل الحسد والكبر ، فالحسود يؤثر هلاك نفسه على انقيادها لمن يحسده ؛ لأن الحسد يفسد الطباع ، وفي التفسير المأثور أن المراد بالناس هنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا شك أنهم حسدوه وحسدوا قومه العرب ؛ لأنه منهم وهم أسبق إلى الخير الذي جاء به .
ورد في بعض
أسباب نزول الآية أن بعض
اليهود ككعب بن الأشرف لم يجدوا مطعنا يقولونه في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا تعدد أزواجه ، وقيل : حسدوه على ذلك ، والآية ترد هذه الشبهة ؛ لأن بعض أنبيائهم
كداود وسليمان كان لهم أزواج كثيرة ، كما رد عليهم استبعادهم أن يكون الملك في غير
آل إسرائيل بأنه تعالى أعطى
آل إبراهيم من ذرية
إسحاق الكتاب والحكمة والنبوة فضلا منه من غير أن يكون لهم حق عليه تعالى ، فكذلك يعطى ذلك لآله من ذرية
إسماعيل ، ولا حجر على فضله ، فإن كان هذا الفضل الإلهي لا يناله إلا من له سلف فيه ، فللعرب هذا السلف ; على أن هذه الدعوى باطلة وإلا لكانت هذه العطايا قديمة أزلية وليس الإنسان قديما أزليا ، ولو كان أزليا لما أمكن أن تكون بعض فروعه أزلية ، فإيتاء الله تعالى بعض البشر الفضل ؛ إما أن يكون بمحض الاختصاص والاختيار وذلك موكول إلى مشيئته عز وجل ، وإما أن يكون لمزايا وفضائل فيمن يعطيه ذلك ، وحينئذ يكون كل من يكتسب مثل تلك المزايا مستحقا لهذا الفضل ، والنبوة ومقدماتها بمحض الاختصاص .
أما
كثرة النساء ، لداود وسليمان عليهما السلام فقد نقل بعض المفسرين أنه كان
لداود مائة امرأة ، ويؤخذ ذلك من سورة ( ص ) وأنه كان
لسليمان ألف وثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فكيف يستنكر أتباعهما أن يكون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسع نسوة ، وقد تزوج أكثرهن لحكم وأسباب عامة أو خاصة كما تقدم بيان ذلك في تفسير آية تعدد الزوجات من الجزء الرابع ، وفي سفر الملوك من كتابهم المقدس ما نصه : 11 : 1 وأحب الملك
سليمان نساء غريبة كثيرة مع
بنت فرعون موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات
[ ص: 132 ] وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب
لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم ولا يدخلون إليكم ؛ لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم فالتصق
سليمان بهؤلاء بالمحبة وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري فأمالت نساؤه قلبه " إلى آخر ما هناك من الطعن فيه ـ عليه السلام ـ وبرأه الله .