[ ص: 181 ] وجه دلالة القرآن على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - :
( تمهيد )
الإيمان بالنبوة والرسالة ينبني على الإيمان بالربوبية والألوهية ، فلا يخاطب بإثباتها والدليل عليها إلا من يؤمن بالله تعالى وصفاته من العلم والحكمة والمشيئة والقدرة وتدبير أمر العالم ، وأكثر البشر يؤمنون بوجود الخالق المدبر صاحب السلطان الغيبي ؛ لأنه مما أودع في الفطرة البشرية ، ولا يعقل هذا النظام المشاهد في العالم بدونه - كما هو مقرر في مواضعه - ولكن الكثيرين يخطئون في فهم صفاته والكلام في تدبيره وتقديره لاختلاف أنظارهم وتقاليدهم في ذلك ، والذين حرموا هذا الإيمان قسمان : همج من سكان الغابات الوحشية وأصحاب شبهات طارئة ، ومثل الأول مثل الخداج الذي يولد ناقصا ، ومثل الثاني مثل من يصاب ببعض مشاعره أو أعضائه ، ومراكز الإدراك في المخ يصاب بعضها بالمرض أو الضعف دون بعض ، فلا يغترن أحد من المتقين بكفر بعض المتقنين لبعض العلوم والفنون ، الذين شغلتهم الصنعة عن الصانع ، كما شغل حب ليلى مجنون
بني عامر عن شخصها ، حتى قيل : إنها زارته فلم يحفل بها .
وأكثر الذين يؤمنون بالله تعالى يؤمنون بالرسل الذين خصهم الله بنوع من العلم والهدى بغير تعلم ولا كسب ، وأيدهم بآيات منه دانت لها عقول المستعدين للهداية ، وخضعت قلوبهم فآمنوا واهتدوا ، وكانت حالهم البشرية بعد الإيمان والهدى خيرا مما كانوا عليه هم وآباؤهم قبل ذلك صلاحا ، وقد بعث الله تعالى رسلا إلى جميع الأمم دعوها إلى أصول الدين الثلاثة المبينة في قوله تعالى : (
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( 2 : 62 ) .
فالرسل - عليهم السلام - كانوا متفقين في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ، وإنما كانوا يختلفون في تفصيل الأعمال الصالحة والشرائع المصلحة بحسب اختلاف استعداد أممهم ، وقد طرأت على أتباعهم من بعدهم بدع وثنية وخرافية وضاعت أكثر تعاليمهم من الأمم القديمة . وإنما بقيت بقية صالحة منها عند المتأخرين من
اليهود والنصارى فيها من الشوائب ما أشرنا إليه آنفا . وكذلك بقيت في جميع الأديان القديمة آثار تاريخية تدل على توحيد الله تعالى ، كما نراه في تاريخ قدماء المصريين والفرس
واليونان ووثنيي
الهند واليابان والصين .
ومما حفظ من أخبار أنبياء
بني إسرائيل : أن الله تعالى أيدهم بالإخبار عن بعض المغيبات وأيد المرسلين منهم :
كموسى وعيسى - عليهم السلام - أجمعين بآيات أخرى من خوارق العادات ، فقامت بها حجتهم على الناس فآمن بها المستعدون ، وكابرها المعاندون المتكبرون ، وأعرض عنها المقلدون الجامدون .
[ ص: 182 ] ( المقصد ) قد اختلف علماء الكلام في
وجه دلالة المعجزة على نبوة من ظهرت على يديه ورسالته ، أي على كون ما يدعو إليه من العقائد والفضائل والأعمال الصالحة وحيا من رب العالمين ، فقال بعضهم : إنها دلالة عقلية ، ورجح الأكثرون أنها وضعية بمعنى أن تأييد الله تعالى إياه بعد التحدي بها في معنى قوله تعالى : ( (
صدق عبدي فيما يبلغ عني ) ) . ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن الذين آمنوا بالرسل في عصرهم وبعد عصرهم من العقلاء والأذكياء وجدوا في أنفسهم اعتقادا اضطراريا بأن ظهور ما لا يقدر عليه غير الله تعالى على أيديهم عقب ادعائهم ما ادعوه ، وطلبهم من الله تعالى أن يصدقهم ، ويعطيهم آية تدل على تصديقه إياهم فيه دليل على أنه هو الذي فعله لأجل تصديقهم ، فسم الدلالة عقلية ، أو سمها وضعية ، أو اجمع بين التسميتين إن شئت .
وقال العلماء : إن
الله تعالى كان يعطي كل رسول من الآيات ما يناسب حال قومه وأهل عصره ، فلما كان قوم فرعون أهل علوم رياضية وطبيعية وأولي سحر وصناعة ، آتى رسوله موسى آيات كان العلماء والسحرة أعلم الناس بأنها من عند الله لا من كسب موسى ولا من صناعته ، ولما كان الرومانيون أولي السلطان في قوم عيسى والسيادة في بلادهم أهل علم واسع بالطب آتاه من الآيات إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت ، ولما كانت العرب قد ارتقت في لغتها فصاحة وبلاغة إلى درجة لم تتفق لغيرها ؛ لأن أذكياءها قد وجهوا جميع قواهم العقلية والخيالية إلى إتقانها ، جعل الله تعالى آية
محمد الكبرى إليهم كتابا معجزا لهم ولسائر الخلق ، في نظمه وأسلوبه وفصاحته وبلاغته ، فقامت عليهم الحجة به بأقوى مما قامت آيات
موسى وعيسى على قومهما ، وفي هذا القول من التقصير في حجة القرآن ما علمت .
والحق الذي يقال في هذا المقام : أن
ما أيد الله تعالى به رسله من الآيات الكونية كان مناسبا لحال زمان كل منهم وأهله ، وقامت الحجة على من شاهد تلك الآيات في عهده ثم على من صدق المخبرين من بعده ، وقد علم الله تعالى أن سلسلة النقل ستنقطع ، وأن ثقة بعض المتأخرين به ولا سيما بعد انقطاع سلسلته ستضعف ، وأن دلالتها على الرسالة ستنكر ، فجعل الآية الكبرى على إثبات رسالة خاتم النبيين علمية دائمة لا تنقطع ، وهي هذا الكتاب المعجز للخلق بما فيه من أنواع الإعجاز السبعة التي ذكرناها ، وبينا أن كل واحد منها آية بينة لمن ألقى السمع وهو شهيد ، وكان مستقلا مطلقا من أسر النظريات المادية وقيود التقليد ، إذ لا يتصور عاقل يؤمن برب العالمين أن يصدر هذا الكتاب المشتمل على هذا القدر السنيع من المعاني ، في هذا الأسلوب البديع والنظم المنيع من المباني من رجل أمي ولا متعلم أيضا ،
[ ص: 183 ] إلا أن يكون وحيا اختصه به الرب - عز وجل - ، ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله ، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله ، فهذا التحدي حجة مستقلة على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - بصرف النظر عن المتحدى به ما هو ، وكل نوع من تلك الأنواع السبعة الثابتة للقرآن حجة مستقلة في نفسها ، وحجة أنهض وأقوى باعتبار أمية من جاء بها ، فإن أمكن تمحل المراء والجدل في بعض الوجوه التي ذكرنا لإعجازه فهل يمكن ذلك في جملتها أو في كل منها ؟ كلا .
سبق لنا أن ضربنا مثلا لنبوته - صلى الله عليه وسلم - : رجلا ادعى في بلاد كثرت فيها الأمراض أنه طبيب وأن دليله على ذلك أنه ألف كتابا في علم الطب يداوي المرضى بما دونه فيه فيبرءون ، فاطلع عليه الأطباء البارعون فشهدوا بأنه خير الكتب في هذا العلم وما يتعلق به من عمل ، ثم عرض عليه من لا يحصى عددا من المرضى وقبلوا ما وصفه لهم من الأدوية فبرءوا من عللهم ، وصاروا أحسن الناس صحة ، فهل يمكن المراء في صحة هذه الدعوى مع هذين البرهانين العلمي والعملي ؟ كلا . وإن
العلم بطب الأرواح أعلى وأعز منالا من العلم بطب الأجساد ، وإن معالجة أمراض الأخلاق وأدواء الاجتماع أعسر من مداواة أعضاء الأفراد . ومن المعلوم بالضرورة أن القرآن مشتمل على العقائد الصحيحة ، والآداب العالية وأصول التشريع الاجتماعي والمدني ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالج به أمة عريقة في الشقاق وحمية الجاهلية ، غريقة في الجهل والأمية ورذائل الوثنية ، فشفيت واتحدت ، وتعلمت الكتاب والحكمة ، وسادت الأمم من بدو وحضر ، مع أنه كان أميا لم يتعلم شيئا من العلوم ، ولم يتمرس بسياسة الشعوب .
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
لو استدل ذلك الطبيب الجسداني على صحة دعواه بعمل غريب غير مألوف للناس ، ولكن لا علاقة له بالطب لأمكن المراء في صحة دعواه ، كذلك شأن هذا النبي في ادعائه أنه مرسل من الله لهداية البشر ، فإن كتابه العلمي المؤيد بنجاح العمل به أدل على كونه وحيا أوحاه الله إليه من جعل عصاه حية أو إحيائه ميتا . لأن هذين على غرابتهما ليسا من موضوع الإرشاد والتعليم ، كما أنهما ليسا من موضوع الطب ، فهما إن دلا على صدق الرسول فدلالتهما ليست في أنفسهما ، والإتيان بعمل خارق للمألوف في العادة من سنن الكون هو دون الإتيان بالعلوم العالية الإلهية والتشريعية من غير تعليم ، فكيف بالإتيان بأنباء الغيب الماضي والمستقبل ؟ فكيف بصلاح حال من عملوا بهذه العلوم دينا ودنيا ؟ فالقرآن إذا برهان على أن ما فيه من الطب الروحاني الاجتماعي وحي من الرب المدبر الحكيم لا يماري فيه إلا معاند مكابر أو مقلد جاهل .
[ ص: 184 ] أما المكابرون الذين يجحدون الحق وهم يعلمون فأمثال رؤساء المشركين ، ورؤساء
اليهود في زمن البعثة المحمدية الذين ثقل على طباعهم ترك رياستهم ، وصيرورتهم أتباعا مساوين لفقراء المسلمين ومواليهم ، ولا يخلو هذا العصر من أناس منهم . وأما المقلدون فعوام أهل الأديان والمذاهب في كل عصر ، الذين لا ينظرون في دليل ولو كان حسيا . وكذلك المفتونون ببعض الشبهات الماديين من الفلاسفة وعلماء الطبيعة الذين قلدوهم في الكفر بالله تعالى كما قال الشاعر في أمثالهم :
عمي القلوب عموا عن كل فائدة لأنهم كفروا بالله تقليدا
فهؤلاء المنكرون لوجود الخالق لا كلام لنا معهم في مسألة النبوة والوحي إلا بعد أن نتكلم معهم أولا في إثبات وجود الخالق وصفات ربوبيته ، ولكن أكثر منكري النبوة يؤمنون بوجود الله تعالى ، وإنما يستبعدون معنى الوحي ، وليس ببعيد في نظر العقل .
الوحي في اللغة : إعلام في خفاء . ووحي الله تعالى إلى أنبيائه علم يخصهم به من غير كسب منهم ولا تعلم من غيرهم ، بل هو شيء يجدونه في أنفسهم من غير تفكر ولا استنباط مقترنا بعلم وجداني ضروري بأن الذي ألقاه في قلوبهم هو الرب القادر على كل شيء ، وقد يتمثل لهم فيلقنهم ذلك العلم ، وقد يكون بغير وساطة ملك ، قال تعالى : (
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) ( 26 : 192 - 194 ) فأي استحالة أو بعد في هذا عند من يؤمن برب العالمين ، وعلمه وحكمته وقدرته في المخلوقين ؟
وعرفه شيخنا في رسالة التوحيد : ( ( بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله تعالى بواسطة أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت . ( قال ) ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى ، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور ) ) ، ثم بين إمكان هذا ووقوعه وأسباب شك بعض الناس فيه وتفنيد شبهاتهم عليه بما يراجع في الرسالة نفسها .
وأما تمثل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم : إنه ممكن في نفسه وقد أخبر به الصادق فوجب تصديقه ، ونقول اليوم : إن العلوم الكونية لم تبق شيئا من أخبار عالم الغيب غريبا إلا وقربته إلى العقل ، بل وإلى الحس تقريبا ، بل ظهر من الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر ما كان يعد عند الجماهير محالا في نظر العقل لا غريبا فقط ، فإذا كان الإنسان الكيميائي يحلل الأجسام الكثيفة حتى تصير غازات لا ترى من شدة لطفها ، ويكثف العناصر اللطيفة فتكون كالجامدة بطبعها ، فكيف يستغرب تكثيف الملك لنفسه وهو من الأرواح ذات المرة والقوة العظيمة بأخذه من مواد العالم المنبثة فيه هيكلا على صورة الإنسان مثلا .
[ ص: 185 ] دع مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء مما أخبر به الرسل من عالم الغيب إلا وفيها نظير له يقربه من الحس ، لا من العقل وحده ، وهل الكهرباء إلا قوة مسخرة للملائكة ؟
ودع ما يثبته الألوف من علماء الأمم كلها من تمثل بعض أرواح البشر لبعض الناس في صور كصور الأجساد ، وهو يوافق المأثور عندنا عن الإمام مالك من أئمة الفقهاء في صفة الروح ، ووقائعه عند الصوفية كثيرة ، ومن ينكر ما يحكى من وقوع هذا لا ينكر إمكانه في نفسه ، ولا الرجاء في ثبوته في يوم ما ، بحيث يشاهده جميع الناس .
خلاصة ما تقدم : أن
دلالة القرآن على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لها وجهان :
( أحدهما ) : ما قيل في دلالة الآيات الكونية لبعض الأنبياء السابقين ، كناقة
صالح ، وعصا
موسى ، وإحياء
عيسى للميت ، وهو أن كلا منها أمر جاء على غير المعتاد من مقدور البشر ، واستدل به صاحبه على نبوته ورسالته ، فكان تصديقا من الله تعالى له ، وتكذيبا وخذلانا منه تعالى لمن كذبه ، وهذا الوجه من الدلالة خارج عن موضوع النبوة والرسالة ، ولذلك اختلف فيه علماء النظر كما تقدم آنفا .
( الوجه الثاني ) : وهو يجتمع مع الأول ، مأخوذ من معنى النبوة والرسالة ، وهو أنها هداية عليا للبشر ، لا تغنيهم عنها هدايات الحواس الظاهرة والباطنة ولا هداية العقل ، فإن هذه هدايات شخصية فردية ، وتلك هداية لنوع الإنسان في جملته ، وقد اكتفينا في هذا الاستطراد بتمثيلها بطب الأبدان ليفهمها كل قارئ وسامع ، وإنما يفهمها الفهم التام من طريقه العلمي من يقف على ما اشتمل عليه القرآن من آيات الهداية وكونه أعلى وأكمل من كل ما نقل عن الأنبياء السابقين ، على ما في نقله من التواتر القطعي ، وما في نقلها من الضعف - ومن طريقه العملي من عرف تاريخ الإسلام ، وما كان من تأثير القرآن في هداية العرب ثم هداية غيرهم من الأمم ، وعرف تأثير هداية الأنبياء السابقين في أممهم - على ما بين النقلين من التفاوت أيضا .
ولا يمتري أحد من العقلاء في كون العلم الذي موضوعه هداية الأمم والشعوب ، ونقلها من حال دنيوية إلى حال أعلى وأكمل منها هو من العلوم العالية التي يقل في الناس من يحذقها ، ويكون إماما مبرزا فيها ، وأن عمل من يتدارسونه في الكتب به أعسر مسلكا ، وأوعر طريقا ، وأن فلاح العاملين به المتمرسين بوسائله قلما يتفق إلا لأفراد أتيح لهم من الأسباب ونفوذ الحكومات ما لم يتح لغيرهم ، فما بالك بالجمع بين هذا وبين العلم والعمل في سبيل الهداية الروحية والاستعداد لسعادة الآخرة والنجاح التام معا ، على ما فيهما من عدم سبق الاستعداد لها بعلم ولا عمل ؟ .
وجملة القول : أن موضوع الرسالة : تعليم وإرشاد إلهي يملك الوجدان ، وتذعن له
[ ص: 186 ] النفس بالإيمان ، فيكون هداية تزع صاحبها عن الباطل والشر ، وتوجهه إلى الحق والخير ، وأن القرآن قد بلغ مرتبة الكمال فيها ، فاهتدت به الأمم والشعوب ، فمن كان يؤمن بها على علم بحقيقتها ، لا تقليدا لآبائه وقومه فيها ، لا يسعه أن يؤمن بالتوراة أو الإنجيل أو الفيدا أو غيرها من الكتب المنسوبة إلى المرسلين الأولين ولا يؤمن بالقرآن ، وهو أكملها في موضوعها ، وأصحها نسبا إلى من جاء به .
الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفأ القنديلا
ومن كان يؤمن بالله تعالى ، وأنه هو الرب الخالق للعالم بأكمل نظام ، المدبر لأمور العباد بالحكمة والإحكام ، وأنه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وتأمل في تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - المنقول نقلا مستفيضا ومتواترا ، فلا يسعه أن يزعم أن بعثة محمد الأمي العربي ، وإتيانه بهذا القرآن ، المشتمل على ما أشرنا إليه من ضروب الإعجاز ، قد كان من أمور التعاليم البشرية الكسبية ، وما حدث به من الهداية التي قلبت تاريخ البشر كان من الأمور العادية ، بل لا يسعه إذا أنصف إلا أن يؤمن بأن هذه الحادثة الانقلابية في دين الأمم ودنياها ، قد كانت بعناية من الرب الحكيم العليم ، المدبر الرحيم ، وأنه هو الذي أفاض هذا القرآن الحكيم على قلب ذلك الرجل الأمي بعد أربعين سنة ، قضاها في قومه لم يؤثر عنه شيء من مثل علومه ، ولا مما يقرب من أسلوبه وبلاغته .
هذا وإن لتحقيق هذه
الدلالة العلمية على النبوة والرسالة مقدمات علمية وفلسفية مستنبطة من حاجة البشر في كمالهم النوعي في الدنيا ، وفي استعدادهم للحياة الأبدية إلى هداية الرسالة ، وقد عقد شيخنا الأستاذ الإمام لهذا البحث فصلا طويلا في " رسالة التوحيد " سلك فيه مسلكين :
( أحدهما ) : مبني على عقيدة خلود النفس البشرية وكونها لا تزول من الوجود بالموت المعهود ، وهي عقيدة اتفقت عليها كلمة البشر من المليين موحديهم ووثنييهم والفلاسفة إلا قليلا من الماديين الجدليين الذين لا يعتدون إلا بمدركات الحس .
( وثانيهما ) : مأخوذ من طبيعة الإنسان في حياته الاجتماعية .
بين الأستاذ في الأول أن الإنسان محتاج بمقتضى تلك العقيدة والشعور النوعي العام بالبقاء والانتقال من طور إلى آخر في الحياة إلى هداية يستعد بها للحياة الآخرة الباقية ، وهي من عالم الغيب الذي لا يدرك من أمره شيئا ، فيستقل عقله في العلم بما يجب عليه من الاستعداد له ، فلا بد أن تكون هذه الهداية من عند الله تعالى الذي خلقه للبقاء الذي يعقله في الجملة ، لا للزوال والعدم المحض الذي لا يعقل ولا يتصور ولا يتخيل ، وإنما عاقبة الموت
[ ص: 187 ] انحلال هذه الصور الجسدية ، وتفرق هذه المركبات المادية ، فالله هو العليم بما يصلح به حاله في تلك الحياة ، وتأبى حكمته ورحمته وجوده وإتقانه لكل شيء خلقه وتنزهه عن الباطل والعبث ، أن يحرمه هذه الهداية .
وبين في الثاني أن هذه الحياة الاجتماعية الإنسانية لا يستقيم فيها التعاون بين الأفراد ولا بين الجماعات إلا بالأخذ بتعاليم اعتقادية وأدبية وعملية لا تختلف فيها الأهواء والشهوات ؛ لأن الوازع فيها نفسي وجداني لصدورها عن الرب الحكيم العليم ، بوحي أوحاه إلى من اختصه بهذا الفضل العظيم ، ولولا أن طال هذا الاستطراد في تفسير الآية لأوردت هذا الفصل برمته هنا ، فهو في المسألة الحجة البالغة ، والحكمة وفصل الخطاب .
إلا أنني أقول : إن أعلم الحكماء الغربيين في هذا العصر قد بينوا في مباحثهم في طبائع البشر أن الإنسان إذا ترك إلى مداركه الحسية ، ونظرياته العقلية ، وتسلل من وجدان الدين والإلهام الإلهي بالحياة الأخرى ، يكون أشقى من جميع أنواع الحيوان الأعجم ، ويكون جل شقائه من نظرياته العقلية ، فهو إذا فكر في هذه الحياة القصيرة التي تساورها الآلام الشخصية ، من جسدية ونفسية ، والآلام المنزلية ( العائلية ) والقومية والوطنية والدولية ، يراها عبثا ثقيلا ، ويرى من السخف أو الجنون أن يحمل شيئا منها مختارا لأجل زوجة أو ولد أو وطن أو أمة ، ويرى أن الطريقة المثلى في الحياة ألا يتعرض لألم من هذه الآلام ، فلا يتزوج ولا يعمل أدنى عمل ولا يتكلف أدنى تعب لأجل غيره ، وأن يطلب لذاته الجسدية من أقرب الطرق إليها ، وينتظر الموت للاستراحة من هذه الحياة ، فإن أبطأ عليه ونزلت به آلام يشق عليه احتمالها من مرض أو فقر مدقع أو ذل مخز فليبخع نفسه ويتعجل الموت انتحارا .
كل فضائل الإنسان من الصبر على المكاره ، والجهاد في سبيل الزوجة والولد والأمة والوطن ، وإسداء المعروف وسائر أعمال البر لا يبعث النفس عليها إلا الإيمان بالله وبالجزاء على الأعمال في حياة خير من الحياة الدنيا ، كما قرره البرنس بسمارك عظيم أوربا في عصره في بيان ( ( الباعث للجندي على بذل نفسه في الحرب ) ) من أنه وجد أنه الدين ، وفي قوله عن نفسه إنه لولا الإيمان لما خدم الأمة الألمانية في ظل عاهلها ، وهو يكره الملوك لأنه جمهوري بالطبع . ولئن انتصرت الأفكار المادية على الهداية الدينية انتصارا تاما كاملا ليتحولن جميع ما اهتدى إليه البشر من أسرار الكون والفنون والصناعات إلى ذرائع الفتك والتدمير ، وبئس المثوى والمصير . وهو ما جزم هربرت سبنسر شيخ فلاسفة أوربا الاجتماعيين بأنه سيكون عاقبة انتشار الأفكار المادية في أوربا : صرح به لشيخنا عند التقائه به في انجلترا .
فجملة القول : أن
الدين هو الهداية العليا للإنسان التي أفيضت على بعض خواصه
[ ص: 188 ] وهم الرسل من أفق أعلى من عقله وحواسه ، فكانت أستاذا مرشدا له فيهما لكيلا يستعملهما فيما يضره في سيرته الشخصية والاجتماعية ، وهاديا له إلى السعادة الأخروية ، وأن القرآن أكمل الكتب الإلهية التي أوحاها الله إلى رسله ليبلغوها خلقه ، أكملها هداية وإرشادا ، وأصحها تاريخا وإسنادا ، ولذلك كان خاتمة لها ، وكان آية دائمة ومعجزة ثابتة بأسلوب عبارته وبما اشتمل عليه مما مرت الإشارة إليه ، ولكن ما طرأ على دول خلافته العربية من الضعف والانحلال صد الناس عنه ، وسيرجعون إلى إحياء لغته ، وتعميم دعوته فينقذ الله به العالم من مصائبه المادية التي أوشكت أن تؤدي به (
ولتعلمن نبأه بعد حين ) ( 38 : 88 ) .