ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وقال الأستاذ الإمام في مناسبة الاتصال : إن هذه الآية وما قبلها وردتا في مقابلة قول الذين أوتوا نصيبا من الكتاب : إن الكافرين أهدى من المؤمنين ، بعدما بين تعالى أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ومن الطاغوت عند المشركين الأصنام والكهان ، فكانوا يحكمون الكاهن ، ويجعلونه شارعا ويقتسمون عند الصنم ويعدون ذلك فصلا في الخصومة .
وقد اتخذ
اليهود الجبت والطاغوت مثلهم ، وطواغيتهم رؤساؤهم الذين يحكمون فيهم بأهوائهم فيتبعونهم
ككعب بن الأشرف ، مع أن عندهم التوراة فيها حكم الله ، ولكنهم كانوا يقولون : إن هؤلاء الرؤساء أعلم منا بالتوراة وبمصلحتنا ، فالله تعالى قد بين لنا حالهم وقرنه ببيان ما يجب أن نسير عليه في الشريعة والأحكام ، حتى لا نضل كما ضل المشركون وأهل الكتاب الذين اتخذوا أفرادا منهم أربابا إذ جعلوهم شارعين فكانوا سبب طغيانهم ؛ ولذلك سموا طواغيت .
ثم قال :
أمر بطاعة الله وهي العمل بكتابه العزيز وبطاعة الرسول ; لأنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم ، وقد أعاد لفظ الطاعة لتأكيد طاعة الرسول ; لأن دين الإسلام دين توحيد محض لا يجعل لغير الله أمرا ، ولا نهيا ، ولا تشريعا ، ولا تأثيرا ، فكان ربما يستغرب في كتابه الأمر بطاعة غير وحي الله ، ولكن قضت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه للناس رسل منهم وتكلف بعصمتهم في التبليغ ، ولذلك وجب أن يطاعوا فيما يبينون به الدين والشرع ، مثال ذلك : أن الله تعالى هو الذي شرع لنا عبادة الصلاة ، وأمرنا بها ، ولكنه لم يبين لنا في الكتاب كيفيتها وعدد ركعاتها ، ولا ركوعها وسجودها ولا تحديد أوقاتها فبينها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمره تعالى إياه بذلك في مثل قوله :
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( 16 : 44 ) ، فهذا البيان بإرشاد من الله تعالى ، فاتباعه لا ينافي التوحيد ولا كون الشارع هو الله تعالى وحده .
[ ص: 147 ] قال : وأما أولو الأمر فقد اختلف فيهم فقال بعضهم : هم الأمراء واشترطوا فيهم ألا يأمروا بمحرم كما قال مفسرنا (
الجلال ) وغيره ، والآية مطلقة ، أي : وإنما أخذوا هذا القيد من نصوص أخرى كحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919139لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=919140إنما الطاعة في المعروف وبعضهم أطلق في الحكام فأوجبوا طاعة كل حاكم ، وغفلوا عن قوله تعالى : منكم وقال بعضهم : إنهم العلماء ، ولكن العلماء يختلفون ، فمن يطاع في المسائل الخلافية ومن يعصى ؟ وحجة هؤلاء أن العلماء هم الذين يمكنهم أن يستنبطوا الأحكام غير المنصوصة من الأحكام المنصوصة ، وقالت
الشيعة : إنهم الأئمة المعصومون ، وهذا مردود إذ لا دليل على هذه العصمة ، ولو أريد ذلك لصرحت به الآية ، ومعنى وأولي الأمر الذين يناط بهم النظر في أمر إصلاح الناس ، أو مصالح الناس ، وهؤلاء يختلفون أيضا ، فكيف يؤمر بطاعتهم بدون شرط ولا قيد ؟
قال رحمه الله تعالى : إنه فكر في هذه المسألة من زمن بعيد فانتهى به الفكر إلى أن المراد بأولي الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين ، وهم الأمراء والحكام ، والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة ، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر ، أو حكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا منا ، وألا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي عرفت بالتواتر ، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر ، واتفاقهم عليه ، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة ، وهو ما لأولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه ، وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد ، بل هو مما يؤخذ عن الله ورسوله فقط ليس لأحد رأي فيه إلا ما يكون في فهمه .
فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمل من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع ـ مختارين في ذلك غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه ـ فطاعتهم واجبة ، ويصح أن يقال : هم معصومون في هذا الإجماع ; ولذلك أطلق الأمر بطاعتهم بلا شرط مع اعتبار الوصف والاتباع المفهوم من الآية ، وذلك كالديوان الذي أنشأه
عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة رضي الله عنهم ، وغيره من المصالح التي أخذ بها برأي أولي الأمر من الصحابة ولم تكن في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يعترض أحد من علمائهم على ذلك .
قال : فأمر الله في كتابه وسنة رسوله الثابتة القطعية التي جرى عليها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعمل هما الأصل الذي لا يرد ، وما لا يوجد فيه نص عنهما ينظر فيه أولو الأمر إذا كان من المصالح ; لأنهم هم الذين يثق بهم الناس فيها ويتبعونهم ، فيجب أن يتشاوروا في تقرير ما ينبغي العمل به ، فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه ، وإن اختلفوا وتنازعوا