وكفى بالله شهيدا على صحة رسالتك للناس كافة بتأييدك بآياته ، وتصديقك فيما أنذرت به المعرضين ، وبشرت به المؤمنين ، أو شهيدا بأنك لم ترسل إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ، لا مسيطرا عليهم ولا جبارا لهم ، ولا مغيرا لنظام الاجتماع فيهم ، وقيل : إن المراد بالشهادة هنا الشهادة على أولئك الذين قالوا تلك الأقوال المنكرة .
تقدم القول بأن هذه الآيات كلها من قوله :
ألم تر إلى هنا نزلت في
اليهود ، والقول بأن الذي نزل فيهم هو قوله :
وإن تصبهم حسنة وما بعده إلى هنا كان يقول هذا يهود
المدينة بعد أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها ، وقيل : إنها نزلت في المنافقين ، وهو يؤيد كون السياق فيهم ، وفي مرضى القلوب الذين على مقربة منهم ، لا في ضعفاء الإيمان خاصة كما اختار الأستاذ الإمام ، وله رحمه الله - تعالى - مقال في تفسير هاتين الآيتين ، وكان قد سئل
[ ص: 221 ] عنهما فأجاب ونشرنا جوابه في المجلد الثالث من المنار ( ص 157 ) ويحسن أن نضعه هاهنا فهو موضعه وهو :
" كان بعض القوم بطرا جاهلا ، إذا أصابه خير ونعمة يقول : إن الله - تعالى - قد أكرمه بما أعطاه من ذلك وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه به لعلو منزلته ، إذا وصل إليه شر - وهو المراد من السيئة - يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات والشرور ، فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده ، كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما ، فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله - تعالى - على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي ، يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي فيه ، وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه مصدرها الأول ومنبعها الحقيقي كذلك ، وأن شؤمه هو الذي رماهم بها ، وهذا هو معنى
من عند الله ، أو
من عندك ، أي من لدنه ومن خزائن عطائه ، ومن لدنك ومن خزائن رزاياك التي ترمي بها الناس ، فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله :
قل كل من عند الله أي : إن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم إنما هو الله وحده ، وليس ليمن ولا لشؤم مدخل في ذلك ، فهو بيان للفاعل الأول الذي يرد إليه الفعل فيما لا تتناوله قدرة البشر ولا يقع عليه كسبهم ، وهو الذي كان يعنيه أولئك المشاقون عندما يقولون : الحسنة من الله والسيئة من
محمد ، أي : إنه لا دخل لاختيارهم في الأولى ولا في الثانية ، وأن الأولى من عناية الله بهم والثانية من شؤم
محمد عليهم ، فجاءت الآية ترميهم بالجهل فما زعموا ، ولو عقلوا لعلموا أن ليس لأحد فيما وراء الأسباب المعروفة فعل ، الخير والشر في ذلك سواء .
" هذا فيما يتعلق بمن بيده الأمر الأعلى في الخير والشر والنعم والنقم ، أما ما يتعلق بسنة الله في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك فالأمر على خلاف ما يزعمون ، كذلك فإن الله - سبحانه وتعالى - قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في توفير أسباب سعادتنا والبعد عن مساقط الشقاء ، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب فيما وهبت له لأجله وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير ، وذلك إنما يكون بتصحيح الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه وفهم شرائع الله حق الفهم والتزام ما حدده فيها ، فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة ، ونبعد عن الشقاء والتعاسة ، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله - تعالى - ،
فما أصابك من حسنة فمن الله ; لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها الحسنات ، بل واستعمالك لتلك القوى إنما هو من الله ; لأنك لم تأت بشيء سوى استعمال ما وهب الله ، فاتصال الحسنة بالله ظاهر ، ولا يفصلها فاصل لا ظاهر
[ ص: 222 ] ولا باطن ، وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا ، وفرطنا في النظر في شئوننا ، وأهملنا العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه ، وغفلنا عن فهمه ، فاتبعنا الهوى في أفعالنا ، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا ، كان ما أصابنا من ذلك صادرا عن سوء اختيارنا ، وإن كان الله - تعالى - هو الذي يسوقه إلينا جزاء على ما فرطنا ، ولا يجوز لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه ، ونسبة الشر والسيئات إلينا في هذه الحالة ظاهرة الصحة ، فأما المواهب الإلهية بطبيعتها فهي متصلة بالخير والحسنات وإنما يبطل أثرها إهمالها ، أو سوء استعمالها ، وعن كلا الأمرين يساق الشر إلى أهله وهما من كسب المهملين وسيئ الاستعمال ، فحق أن ينسب إليهم ما أصيبوا به وهم الكاسبون لسببه ، فقد حالوا بكسبهم بين القوى التي غرزها الله فيهم لتؤدي إلى الخير والسعادة ، وبينما حقها أن تؤدى إليه من ذلك ، وبعدوا بها عن حكمة الله فيها ، وصاروا بها إلى ضد ما خلقت لأجله ، فكل ما يحدث بسبب هذا الكسب الجديد ، فأجدر به ألا ينسب إلا إلى كاسبه .
" وحاصل الكلام في المقامين : أنه إذا نظر إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ، ولا يجوز أن يقال إن سواه يقدر على ذلك ، ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلاما ; لأن نسبة الخير إلى الله ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل ، فإن الذي يأتي بالخير ويقدر على سوقه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه ، فالتفريق ضرب من الخبل في العقل .
" وإذا نظرنا إلى
الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا سعداء ولا يكونوا أشقياء ، فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من فضل الله ; لأنه أحسن استعمال الآلات التي من الله عليه بها ، فعليه أن يحمد الله ويشكره على ما آتاه ، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب ، وليس بسائغ له أن ينسب شيئا من ذلك إلى النبي ولا إلى غيره ، فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ولم يقهره على إتيان ما كان سببا في الانتقام منه .
" فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك - يا
محمد - على ما ينالون من خير ، فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير ، وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله وفي التزامها سعادتهم ، ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله ، فعند ذلك يعلمون أن الله قد انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته ; لأن الكل من عنده ، وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ويسلب نعمته عمن أساءه .
[ ص: 223 ] " وقد تضافرت الآثار على أن
طاعة الله من أسباب النعم ، وأن عصيانه من مجالب النقم ، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه ، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله " .
" ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب ، فإنك لو كنت فقيرا وأعطاك والدك مثلا رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد في الإنفاق وصرت بذلك غنيا ، فإنه يحق لك أن تقول : إن غناك إنما كان من ذلك الذي أعطاك رأس المال وأعدك به للغنى ، أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه ، واطلع على ذلك منك فاسترد ما بقي منه وحرمك نعمة التمتع به ، فلا ريب أن يقال : إن سبب ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها ، مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد وهو والدك ، غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد ، وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يحب ; لأن تحويل الوسائل عن الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه .
" وهناك للآية معنى أدق ، يشعر به ذو وجدان أرق ، مما يجده الغافلون من سائر الخلق ، وهو أن ما وجدت من فرح ومسرة ، وما تمتعت به من لذة حسية أو عقلية ، فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك ، وما خلقت إلا لتكون سعيدا بما وهبك ، أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك ، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار ، وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك ، ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة ، وأخذته كما هو وعلى ما هو عليه ، لكانت المصائب لديك بمنزلة التوابل الحريفة يضيفها طاهيك على ما يهيئ لك من طعام لتزيده حسن طعم وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة ، واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ، ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده والتعرض لنعمه ، والتحول عن مصاب نقمه ، فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة التأديب ، ومتاع التعليم والتهذيب وهو متاع تجتني فائدته ، ولا تلتزم طريقته ، فكما يسر طالب الأدب أن يتحمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه ، يسره كذلك أن يرتقي فوق ذلك المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعا بما حصل ، بالغا ما أمل ، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي ، انتهى .