[ ص: 202 ] (
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون )
وصف الضالين بالفسوق ، ثم بين من حال فسوقهم نقض العهد الموثق ، وقطع ما يجب أن يوصل ، والإفساد في الأرض ، وسجل بذلك عليهم الخسران وحصرهم في مضيقه بحيث لا يسلم منه إلا من رجع عن فسوقه ( أقول ) : فعلم بهذا أن المراد بإسناد الإضلال إليه - تعالى - في الآية السابقة بيان سنته - تعالى - في أصحاب هذه الأعمال من الفساق وهو أنهم يضلون حتى بما هو سبب من أشد أسباب الهداية تأثيرا وهو المثل المذكور بسبب رسوخهم في الفسق ونقضهم للعهد . . . إلخ ، وليس المعنى أنه - تعالى - خلق الضلال فيهم خلقا وأجبرهم عليه إجبارا .
العهد هنا لفظ مجمل لم يتقدم الآيات ما يشعر به ، ولم يتل فيما تلاها ما يبينه ، وكذلك ما أمر الله به أن يوصل ليس في سابق الآيات ولا في لاحقها ما يفسره ويبين المراد منه ، فما المعنى الذي يتبادر منهما إلى أفهام المخاطبين ، ويصح أن يؤخذ من حال أولئك الفاسقين ، الذين أنكروا على الله أن يضرب مثلا يقتدى به من البشر أو من العرب ، أو الذين أنكروا الوحي لمجيء الأمثال القولية فيه بما يعد حقيرا من المخلوقات في عرف المتكبرين والمتظرفين منهم ؟ دل ذكر العهد والسكوت عما يفسره ، وإطلاق ما أمر الله بأن يوصل بدون بيان ما يفصله ، على أن الله - تعالى - ما وصفهم إلا بما هم متصفون به ، ولا حاجة إلى بيان المجمل بالقول إذا كان الوجود قد تكفل ببيانه ، والواقع قد فسره بلسانه ، ويرشد إلى فهم العهد الإلهي هنا ما قلناه في معنى الفسوق ، فإن الفاسقين هم (
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) فإذا كان معنى الفسوق : الخروج عن سنن الله - تعالى - في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر ، وعن هداية الدين بالنسبة إلى الذين أوتوه خاصة ، فعهد الله - تعالى - هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والاعتبار ، والتجربة والاختبار ، أو العقل والحواس المرشدة إليها وهي عامة ، والحجة بها قائمة على كل من وهب نعمة العقل وبلغ سن الرشد سليم الحواس ، ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحا حتى كأنهم فقدوها وخرجوا من حكمها كما قال - تعالى - : (
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) ( 7 : 179 ) وكما قال أيضا : (
صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) ( 2 : 171 ) .
[ ص: 203 ] هذا هو القسم الأول من العهد الإلهي وهو العام الشامل ، والأساس للقسم الثاني المكمل الذي هو الدين ، فالعهد فطري خلقي ، وديني شرعي ، فالمشركون نقضوا الأول ، وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقه نقضوا الأول والثاني جميعا ، وأعني بالناقضين من أنكر المثل من الفريقين ، والميثاق : اسم لما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه ، والله - تعالى - قد وثق العهد الفطري بجعل العقول بعد الرشد قابلة لإدراك السنن الإلهية في الخلق ، ووثق العهد الديني بما أيد به الأنبياء من الآيات البينات والأحكام المحكمات ، وقد وثق العهد الأول بالعهد الثاني أيضا ، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله فاسق عن سننه في تقويم البنية البشرية وإنمائها ، وإبلاغ قواها وملكاتها حد الكمال الإنساني الممكن لها .
وأما قوله : (
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) ففيه من الإجمال نحو ما في نقض العهد ، وليس هو بمعناه على طريق التأكيد ، وإنما هو وصف مستقل جاء متمما لما سبقه ، وهذا الأمر نوعان : أمر تكوين وهو ما عليه الخلق من النظام والسنن المحكمة ، وقد سمى الله - تعالى - التكوين أمرا بما عبر عنه بقوله : ( كن ) وأمر تشريع وهو ما أوحاه إلى أنبيائه وأمر الناس بالأخذ به ، ومن النوع الأول ترتيب النتائج على المقدمات ووصل الأدلة بالمدلولات ، وإفضاء الأسباب إلى المسببات ، ومعرفة المنافع والمضار بالغايات ، فمن أنكر نبوة النبي بعد ما قام الدليل على صدقه أو أنكر سلطان الله على عباده بعد ما شهدت له بها آثاره في خلقه ، فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى التكوين الفطري ، وكذلك من أنكر شيئا مما علم أنه جاء به الرسول ؛ لأنه إن كان من الأصول الاعتقادية ففيه القطع بين الدليل والمدلول ، وإن كان من الأحكام العملية ففيه القطع بين المبادئ والغايات ؛ لأن كل ما أمر الدين به قطعا فهو نافع ومنفعته تثبتها التجربة والدليل ، وكل ما نهى عنه حتما فلا بد أن تكون عاقبته مضرة ، فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه هم الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل بغايته ، أما بالنسبة إلى الإيمان بالله - تعالى - وبالنبوة فيقطعون ما أمر به بمقتضى التكوين والنظام الفطري ، وأما بالنسبة إلى الأحكام فيقطعون ما أمر به في كتبه أمر تشريع وتكليف ، وصلة الأرحام تدخل في كل من القسمين .
إذا كان مشركو العرب قد نقضوا عهد الفطرة وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل بمقتضاها بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه وهو ذو رحم بهم ، فالمكذبون من أهل الكتابين قد قطعوا صلات الأمرين كما نقضوا العهدين ؛ فإن الله - تعالى - قد بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه ذكر للمبشر به صفات وأعمالا وأحوالا تنطبق عليه أتم الانطباق ، فحرفوا وأولوا واجتهدوا في صرفها عنه وهم متعمدون (
وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) ( 2 : 146 ) ومنهم من يحمل تلك الصفات والعلامات على غيره ، ومنهم ينتظر مبعوثا آخر يجيء الزمان به .
[ ص: 204 ] التعبير بالقطع هنا أبلغ من التعبير بالنقض ، ولذلك جاء بعده متمما له ؛ كأن عهد الله - تعالى - إلى الناس حبل محكم الطاقات موثق الفتل ، وكأن هذا الحبل قد وصل بحكمة أمر التكوين وحكم أمر التشريع بين جميع المنافع التي تنفع الناس ، فلم يكتف أولئك الفاسقون المنكرون للمثل الذي ضربه الله لعباده بنقض حبل العهد الإلهي وحل طاقاته ونكث فتله حتى قطعوه قطعا ، وأفسدوا بذلك نظام الفطرة ونظام الهداية الدينية أصلا وفرعا ، ولذلك عقب هذا الوصف بقوله : (
ويفسدون في الأرض ) وأي إفساد أكبر من إفساد من أهمل هداية العقل وهداية الدين ، وقطع الصلة بين المقدمات والنتائج ، وبين المطالب والأدلة والبراهين ؟ من كان هذا شأنه فهو فاسد في نفسه ووجوده في الأرض مفسد لأهلها ؛ لأن شره يتعدى كالأجرب يعدي السليم ؛ ولذلك ورد في السنة النهي عن قرناء السوء ، والمشاهدة والتجربة مؤيدة للسنة ومصدقة لها خصوصا إذا قعدوا في سبيل الله يصدون عنها ويبغونها عوجا ، فإن إفسادهم يكون أشد انتشارا وأشمل خسارا .
ولما كان إفساد هؤلاء عاما للعقائد والأخلاق والأعمال لأن علته فقد الهدايتين ؛ هداية الفطرة وهداية الدين ، سجل عليهم الخسران وحصره فيهم بقوله : (
أولئك هم الخاسرون ) بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ، أما خسرانهم في الدنيا فهو ظاهر لأرباب البصائر الصافية والفضائل السامية ، ولكنه يخفى على الأكثرين بالنسبة إلى الأغنياء من أولئك الخاسرين ، يرونهم متمتعين بلذات الدنيا وشهواتها فيحسبون أنهم مغبوطون سعداء بها ، فيكون هذا الحسبان من آلات الإفساد ، ولو سبروا أغوارهم وبلوا أخبارهم لأدركوا أن ما هم فيه من ظلمة النفس وضيق العطن وفساد الأخلاق ينغص عليهم أكثر لذاتهم ، ويقذف بهم إلى الإفراط الذي يولد الأمراض الجسدية والنفسية ، ويثير في نفوسهم كوامن الوساوس ، ويجعل عقولهم كالكرة تتقاذفها صوالجة الأوهام ، وأن حب الراحة يوقعهم في تعب لا نهاية له ، وهو تعب البطالة والكسل أو العمل الاضطراري ، ومن لا يذوق لذة العمل الاختياري لا يذوق لذة الراحة الحقيقية ؛ لأن الله - تعالى - لم يضع الراحة في غير العمل ، وإنما سعادة الدنيا بصحة الجسم والعقل وأدب النفس الذي يرشد إليه الدين ، فمن فقد هذه الأشياء فقد خسر الدنيا والآخرة و (
ذلك هو الخسران المبين ) .