ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، أي : إن هؤلاء المنافقين الذين ترجون نصرهم لكم وتطمعون في هدايتهم ليسوا من الكفار القانعين بكفرهم ، الغافلين عن غيرهم ، بل هم يودون لو تكفرون ككفرهم وتكونون مثلهم سواء ، ويقضى على الإسلام الذي أنتم عليه ويزول من الأرض
فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ، أي : فلا تتخذوا منهم أنصارا لينصروكم على المشركين حتى يهاجروا ويتحدوا بكم ; لأن
المؤمن الصادق لا يدع النبي ومن معه من المؤمنين عرضة للخطر ولا يهاجر إليهم لينصرهم إلا للعجز ،
فترك الهجرة مع القدرة عليها دليل على نفاق أولئك المختلف فيهم ، والأستاذ الإمام يقدر هنا حتى يؤمنوا ويهاجروا ، وكانت الهجرة لازمة للإيمان لزوما بينا مطردا ; فلذلك استغنى بذكرها عن ذكره إيجازا ، ومن جعل الآيات في المنافقين في الدين من
أهل المدينة وما حولها جعل المهاجرة هنا من باب حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919197والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وهو بعيد جدا ، ومعنى الحديث أن المهاجر الكامل من كان كذلك ، ويرد ما قالوه كما سبق التنبيه إليه قوله - تعالى - :
فإن تولوا ، أي : أعرضوا عن الإيمان والهجرة
فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ، ولا يجوز بحال أن يكون المراد أن الذين لا يهجرون ما نهى الله عنه يقتلون حيث وجدوا ، وما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل أحدا من المنافقين في الإيمان بذنبه ، بل كان يهم الرجل من أصحابه بقتل المنافق فيمنعه وإن ظهر المقتضى لئلا يقال : إن
محمدا يقتل أصحابه ، ولا يظهر هذا التعليل في أولئك المنافقين الذين كانوا
بمكة ينصرون المشركين وأما المنافقون في الولاء فالأمر بقتالهم أظهر ، فقد كانوا يعاهدون فيفي لهم المسلمون وهم يغدرون ، ويستقيم المسلمون على عهدهم وهم ينكثون ، ولم يأمرهم الله - تعالى - بمعاملتهم بما يستحقون إلا بعد تكرار ذلك منهم ; لأنه تعالى جعل
الوفاء من صفات المؤمنين بمثل قوله :
[ ص: 265 ] الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ( 13 : 20 ) ، وأكد حفظ ميثاقهم ، حتى إنه حرم نصر المؤمنين غير الذين مع رسوله عليهم بقوله :
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ( 8 : 72 ) ، وقد بين أحكامهم وأحكام أمثالهم مفصلة هنا وفي أول سورة التوبة ، وهي صريحة في علة الأمر بقتالهم ، وهي غدرهم وتصديهم لقتال المسلمين ، وقد جعل هذه العلة من قبيل الضرورة تقدر بقدرها ; ولذلك عقب نهيه عن اتخاذ ولي أو نصير منهم بقوله :
إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلخ ، ذهب
أبو مسلم إلى أن هذا استثناء من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، قال - كما نقل عنه -
الرازي :
لما أوجب الله الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال :
إلا الذين يصلون ، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة إلا أنه كان في طريقهم من الكفار من يخافونه ، فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق وأقاموا عندهم ينتهزون الفرصة لإمكان الهجرة واستثنى أيضا من صاروا إلى الرسول والمؤمنين ، ولكن لا يقاتلون المسلمين ولا يقاتلون الكفار معهم ; لأنهم أقاربهم أو لأنهم تركوا فيهم أولادهم وأزواجهم ; فيخافون أن يفتكوا بهم إذا هم قاتلوا مع المسلمين ، وقد أبعد
أبو مسلم في هذا إذ لا يظهر معنى لنفي قتال المسلمين للنبي ومن معه ، ولا لامتنان الله - تعالى - عليهم بأنه لم يسلطهم عليهم .
وذهب الجمهور إلى أن الذين استثناهم الله - تعالى - هم من الكفار ، وكانوا كلهم حربا للمؤمنين يقتلون كل مسلم ظفروا به إذا لم يمنعه أحد ، فشرع الله للمؤمنين معاملتهم بمثل ذلك ، وأن يقاتلوهم حيث وجدوهم إلا من استثني ، وهذا يؤيد رأي الأستاذ في نفاقهم .
ونقول : إن الكلام في
المنافقين الذين في دار الشرك لا في دار الهجرة سواء كان نفاقهم بدعوى الإسلام أو بالولاء والعهد ، وقد أركسهم الله وأظهر نفاقهم وشدة حرصهم على ارتداد المسلمين كفارا مثلهم ، وأذن بقتلهم أينما وجدوا ; لأنهم يغدرون بالمسلمين فيوهمونهم أنهم معهم ، ويقتلونهم إذا ظفروا بهم ، واستثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد الأمرين : أحدهما : أن يصلوا وينتهوا إلى قوم معاهدين للمسلمين فيدخلوا في عهدهم ويرضوا بحكمهم ، فيمتنع قتالهم مثلهم ، وثانيهما : أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم ، بل يكونون على الحياد ، وهذا هو قوله - تعالى - :
أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ، أي : جاءوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين ، ولا يظهر هذا ظهورا بينا لا تكلف فيه إلا على قول الأستاذ الإمام : إن نفاقهم كان بالولاء ، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ، ولا يقاتلون قومهم لأنهم قومهم ، وقبول عذر الفريقين موافق للأصل الذي تقدم في سورة
[ ص: 266 ] البقرة :
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ( 2 : 190 ) ، فيا لله ما أعدل القرآن وما أكرم أصول الإسلام .