[ ص: 284 ] أما
قوله - تعالى - : كذلك كنتم من قبل ففيه وجهان :
أحدهما : أنكم كنتم كذلك تستخفون بدينكم كما استخفى بدينه من قومه هذا الذي ألقى إليكم السلام فقتلتموه إلى أن لحق بكم ، أي : فإنه ما بقي يخفي الإسلام بينهم إلا خوفا على نفسه منهم ، وكذلك كان السابقون الأولون وهم خيار المؤمنين يخفون إسلامهم حتى أسلم
عمر فأظهر إسلامه وحملهم على إظهار إسلامهم ، ثم كان من بعدهم إذا أسلم يخفي إسلامه حتى يتيسر له الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فمن الله عليكم ، بالهجرة والقوة حتى أظهرتم الإسلام ونصرتموه .
والوجه الثاني : أنكم كذلك كنتم كفارا مثل من قتلتم بتهمة الكفر فمن الله عليكم بالهداية إلى الإسلام ، فمنكم من أسلم لظهور حقية الإسلام له من أول وهلة ، ومنكم من أسلم تقية أو لسبب آخر ثم حسن إسلامه عندما خبر الإسلام وعرف محاسنه .
وقيل : معنى " من الله عليكم " : أنه تفضل عليكم بالتوبة من قتل من قتلتموه بهذه التهمة التي كنتم مثله فيها فتبينوا ، أي : اطلبوا البيان أو كونوا على بينة من الأمر تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن ولا بالظنة ( التهمة ) ، أو تثبتوا ولا تعجلوا بعد في مثل هذا
إن الله كان بما تعملون خبيرا ، لا يخفى عليه شيء من نيتكم فيه ، ومن المرجح له هل هو محض الدفاع عن الحق أم ابتغاء الغنيمة ؟ قال الأستاذ الإمام : هذا تأكيد لذلك التنبيه في قوله :
تبتغون عرض الحياة الدنيا ، لأجل التحذير من الوقوع في مثل هذا الخطأ فهو شبيه بالوعيد ، ويحتمل أن يكون وعيدا إذا قلنا إن قوله - تعالى - :
تبتغون عرض الحياة الدنيا ، حكم جديد بأن
قتل من ألقى السلام يعد من قتل المؤمن عمدا والمعنى أن الله - تعالى - خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء من مرجحات الحمل عليها في نفوسكم فإن كان فيه ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تغفلوا ، بل تثبتوا وتبينوا ، وحكم الآية يعمل به بصرف النظر عن سبب نزولها ، وهو أن
كل من أظهر الإسلام يقبل منه ويعد مسلما ولا يبحث عن الباعث له على ذلك ، ولا يتهم في صدقه وإخلاصه .
أقول : فأين هذا من حرص من لم يهتدوا بكتاب الله في إسلامهم ولا في عملهم بأحكامه على تكفير من يخالف أهواءهم من أهل القبلة ، بل من أهل العلم الصحيح والدعوة إلى كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فليعتبر المعتبرون .
[ ص: 285 ] أقول هذا وإن الجاهلين بتاريخ الإسلام وأحوال الأمم والدول إلى هذا الزمان يظنون أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا ملومين في
أخذ الغنائم ممن يظفرون بهم ، وأن بعض أمم الحضارة صارت أرقى في هذا الأمر منهم ، وأن قوانينها في الحرب أقرب إلى النزاهة والعدل من أحكام الإسلام ، وكيف هذا وقوانين الدول المرتقية كلها تبيح أخذ كل ما تصل إليه اليد من أموال المحاربين ؟ لا يصدهم عن ذلك سلام ولا دين ، وقد علمت من هذه الآيات أن الإسلام يمنع قتل من يظهر الإسلام ، ومن يلقي السلم أو السلام ، ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق إما على المناصرة وإما على ترك القتال ، ومن اتصل بأهل الميثاق المعاهدين ، ومن اعتزل القتال فلم يساعد فيه قومه المقاتلين ، وبعد هذا كله رغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال ; ليكون لمحض رفع البغي والعدوان ، وتقرير الحق والإصلاح ، ولا هم لجميع الدول والأمم الآن إلا الربح وجمع الأموال ، وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء ، ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء ، وهو ما شدد الإسلام في حفظه ، وحافظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهده ، وحافظ عليه خلفاؤه الراشدون من بعده ، فأين أرقى أمم المدنية من أولئك الأئمة المهديين ! ؟ رضوان الله عليهم أجمعين .