ثم بعد بيان بعض آياته في أنفسهم بذكر المبدأ والمنتهى ذكرهم بآياته في
الآفاق فقال : (
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) فالكلام على اتصاله وترتيبه وانتظام جواهره في سلك أسلوبه ، فليس في قوله : (
كيف تكفرون ) . . . إلخ ، انتقال لإثبات البعث كما قال بعض المفسرين غفلة عن هذا الاتصال المتين ، ولعمري إن وجوه الاتصال بين الآيات وما فيها من دقائق المناسبات لهي ضرب من ضروب البلاغة ، وفن من فنون الإعجاز ، إذا أمكن للبشر الإشراف عليه فلا يمكنهم البلوغ إليه ، والكلام في البعث في القرآن كثير جدا فلا حاجة إلى الإسراع إليه هنا .
يصور لنا قوله - تعالى - : (
خلق لكم ) قدرته الكاملة ، ونعمه الشاملة ، وأي قدرة أكبر من قدرة الخالق ؟ وأي نعمة أكمل من جعل كل ما في الأرض مهيئا لنا ومعدا لمنافعنا ؟ وللانتفاع بالأرض طريقان : ( أحدهما ) الانتفاع بأعيانها في الحياة الجسدية . ( وثانيهما ) النظر والاعتبار بها في الحياة العقلية ، والأرض : هي ما في الجهة السفلى ، أي ما تحت أرجلنا ، كما أن المراد بالسماء : كل ما في الجهة العليا ، أي فوق رءوسنا وإننا ننتفع بكل ما في الأرض برها وبحرها من حيوان ونبات وجماد ، وما لا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته ، والتعبير بـ " في " يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنص الصريح .
( وأقول هنا ) : إن هذه الجملة هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء " إن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة " والمراد إباحة الانتفاع بها أكلا وشربا ولباسا وتداويا وركوبا وزينة ، وبهذا التفصيل تدخل الأشياء التي يضر استعمالها في بعض الأشياء وينفع في بعض ، كالسموم التي يضر أكلها وشربها وينفع التداوي بها ، وليس لمخلوق حق في تحريم شيء أباحه الرب لعباده تدينا به إلا بوحيه وإذنه (
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) ( 10 : 59 ) وما يحظره الطبيب على المريض من طعام حلال في نفسه ، وما يمنع الحاكم العادل الناس من التصرف فيه من المباحات لدفع مفسدة أو رعاية مصلحة فليس من التحريم الديني للشيء ولا يكون دائما ، وإنما يتبعان في ذلك كما يأمران به بحق وعدل ما دامت علته قائمة .
قال - تعالى - : (
ثم استوى إلى السماء ) يقال استوى إلى الشيء : إذا قصد إليه قصدا مستويا خاصا به لا يلوي على غيره ، وقال
الراغب : إذا تعدى استوى بـ " إلى " اقتضى الانتهاء
[ ص: 207 ] إلى الشيء إما بالذات وإما بالتدبير ، والمراد أن إرادته توجهت إلى مادة السماء كما قال في سورة فصلت : (
ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ( 41 : 11 ) . . . إلخ ، (
فسواهن سبع سماوات ) فأتم خلقهن من تلك المادة الدخانية فجعلهن سبع سماوات تامات منتظمات الخلق ، وهذا الترتيب يوافق ما كان معروفا عند اليهود عن سيدنا
موسى - عليه السلام - من أن
الله - تعالى - خلق الأرض أولا ، ثم خلق السماوات والنور ، ولا مانع من الأخذ بظاهر الآية فإن الخلق غير التسوية ، ألا ترى أن الإنسان في طور النطفة والعلقة يكون مخلوقا ولكنه لا يكون بشرا سويا في أحسن تقويم ، كما يكون عند إنشائه خلقا آخر ، وسنبين - إن شاء الله - تعالى - عند تفسير قوله - تعالى - : (
أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) ( 21 : 30 ) أن العالم كان شيئا واحدا ثم فصله الله - تعالى - بالخلق تفصيلا وقدره تقديرا ، فلا مانع إذن من أن يكون خلق الأرض وما فيها سابقا على تسوية السماء سبعا ، نعم إن هذا من أسرار الخلقة التي لا نعرفها ، وربما يتوهم أن هذه الآية تناقض أو تخالف قوله - تعالى - بعد ذكر خلق السماء وأنوارها : (
والأرض بعد ذلك دحاها ) ( 79 : 30 ) والجواب عنه من وجهين : ( أحدهما ) أن البعدية ليست بعدية الزمان ولكنها البعدية في الذكر وهي معروفة في كلام العرب وغيرهم ، فلا بعد في أن تقول فعلت كذا لفلان وأحسنت عليه بكذا ، وبعد ذلك ساعدته في عمل كذا ، كما تقول : وزيادة على ذلك في عمله ، تريد نوعا آخر من أنواع الإحسان ، من غير ملاحظة التأخر في الزمان . ( ثانيهما ) أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض أي جعلها ممهدة مدحوة قابلة للسكنى والاستعمار لا مجرد خلقها وتقدير أقواتها فيها ، وخلق الله وتقديره لم ينقطع من الأرض ولا ينقطع منها ما دامت ، وكذلك يقال في غيرها .
( وأزيد على ذلك الآن ) أن الدحو في أصل اللغة : دحرجة الأشياء القابلة للدحرجة كالجوز والكرى والحصا ورميها ، ويسمون المطر الداحي ؛ لأنه يدحو الحصا ، وكذا اللاعب بالجوز ، وفي حديث
أبي رافع ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003127كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي ) ) وهي أحجار أمثال القرصة كانوا يحفرون ويدحون فيها بتلك الأحجار ، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإن لم يقع غلب ، ذكره في اللسان ، وقال بعده الدحو : هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره ، وأقول : إن ما ذكره وأعاد القول فيه من لعبة الدحو بالحجارة المستديرة كالقرصة لا يزال مألوفا عند الصبيان في بلادنا ويسمونه لعب الأكرة ، ويحرفها بعضهم فيقول : الدكرة . وقال
الراغب في مفردات القرآن قال - تعالى - : (
والأرض بعد ذلك دحاها ) ( 79 : 30 ) أي أزالها عن مقرها كقوله : (
يوم ترجف الأرض والجبال ) ( 73 : 14 ) وهو من قولهم دحا المطر الحصا . . . إلخ ، ولكن فرقا بين دحو الأرض ودحرجتها من مكانها عند التكوين ، ورجفها قبيل خرابها عند قيام الساعة . وقد يكون المراد به - والله أعلم - أنه دحاها عندما
[ ص: 208 ] فتقها هي والسماوات من المادة الدخانية التي كانت رتقا ، وفيه دلالة أو إشارة - على الأقل - إلى أنها كرة أو كالكرة في الاستدارة ، وإلا يبعد أن يكون المراد بدحوها ودحرجتها حركتها بقدرته - تعالى - في فلكها (
وكل في فلك يسبحون ) ( 36 : 40 ) وهذا لا ينافي ما قيل من أن معناه بسطها أي وسعها ومد فيها ، وأنه سطحها أي جعل لها سطحا واسعا يعيش عليه الناس وغيرهم ، فمن جعل مسألة كرويتها وسطحها أمرين متعارضين يقول بكل منهما قوم يطعنون في الآخرين فقد ضيقوا من اللغة والدين واسعا بقلة بضاعتهم فيهما معا .
وحاصل القول : أن الله - تعالى - خلق هذه الأرض وهذه السماوات التي فوقنا بالتدريج وما أشهدنا خلقهن ، وإنما ذكر لنا ما ذكره للاستدلال على قدرته وحكمته وللامتنان علينا بنعمته ، لا لبيان تاريخ تكوينهما بالترتيب ؛ لأن هذا ليس من مقاصد الدين ، فابتداء الخلق غير معروف ولا ترتيبه ، إلا أن تسوية السماء سبع سماوات يظهر أنه كان بعد تكوين الأرض ، ويظهر أن السماء كانت موجودة إلا أنها لم تكن سبعا ، ولذلك ذكر الاستواء إليها وقال : (
فسواهن سبع سماوات ) ( 2 : 29 ) فنؤمن بأنه فعل ذلك لحكم يعلمها ، وقد عرض علينا ذلك لنتدبر ونتفكر ، فمن أراد أن يزداد علما فليطلبه من البحث في الكون ( وعليه بدراسة ما كتب الباحثون فيه من قبل ، وما اكتشف المكتشفون من شئونه وليأخذ من ذلك بما قام عليه الدليل الصحيح لا بما يتخرص به المتخرصون ويخترعونه من الأوهام والظنون ) وحسبه أن الكتاب أرشده إلى ذلك وأباحه له .
هذه الإباحة للنظر والبحث في الكون ، بل هذا الإرشاد إليها بالصيغ التي تبعث الهمم وتشوق النفوس ، ككون كل ما في الأرض مخلوقا لنا محبوسا على منافعنا هو مما امتاز به الإسلام في ترقية الإنسان ، فقد خاطبنا القرآن بهذا على حين أن أهل الكتاب كانوا متفقين في تقاليدهم وسيرتهم العملية على أن العقل والدين ضدان لا يجتمعان ، والعلم والدين خصمان لا يتفقان ، وأن جميع ما يستنتجه العقل خارجا عن نص الكتاب فهو باطل .
ولذلك جاء القرآن يلح أشد الإلحاح بالنظر العقلي ، والتفكر والتدبر والتذكر ، فلا تقرأ منه قليلا إلا وتراه يعرض عليك الأكوان ، ويأمرك بالنظر فيها واستخراج أسرارها ، واستجلاء حكم اتفاقها واختلافها (
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) ( 10 : 101 ) (
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) ( 29 : 20 ) (
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) ( 22 : 46 ) (
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) ( 88 : 17 ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا ،
وإكثار القرآن من شيء دليل على تعظيم شأنه ووجوب الاهتمام به ، ومن
فوائد الحث على النظر في الخليقة - للوقوف على أسرارها بقدر الطاقة واستخراج علومها لترقية النوع الإنساني الذي خلقت هي لأجله - مقاومة تلك التقاليد
[ ص: 209 ] الفاسدة التي كان عليها أهل الكتاب فأودت بهم وحرمتهم من الانتفاع بما أمر الله الناس أن ينتفعوا به .
كانت
أوروبا المسيحية في غمرة من الجهل وظلمات من الفتن ، تسيل الدماء فيها أنهارا لأجل الدين وباسم الدين وللإكراه على الدين ، ثم فاض طوفان تعصبها على المشرق ، ورجعت بعد الحروب الصليبية تحمل قبسا من دين الإسلام وعلوم أهله ، فظهر فيهم بعد ذلك قوم قالوا : إن لنا الحق في أن نتفكر وأن نعلم وأن نستدل ، فحاربهم الدين ورجاله حربا عوانا انتهت بظفر العلم ورجاله بالدين ورجاله ، وبعد غسل الدماء المسفوكة قام - منذ مائتي سنة إلى اليوم - رجال منهم يسمون هذه المدنية القائمة على دعائم العلم : المدنية المسيحية ، ويقولون بوجوب محق سائر الأديان ومحوها - بعد انهزامها - من أمام الدين المسيحي ؛ لأنها لا تتفق مع العلم وفي مقدمتها الدين الإسلامي ، وحجتهم على ذلك حال المسلمين ، نعم إن المسلمين أمسوا وراء الأمم كلها في العلم حتى سقطوا في جاهلية أشد جهلا من الجاهلية الأولى ، فجهلوا الأرض التي هم عليها ، وضعفوا عن استخراج منافعها ، فجاء الأجنبي يتخطفها من بين أيديهم وهم ينظرون ، وكتابهم قائم على صراطه يصيح بهم : (
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) (
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) ( 45 : 13 ) (
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) ( 7 : 32 ) الآيات . وأمثال ذلك . ولكنهم (
صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) ( 2 : 171 ) إلا من رحم الله ، ولو عقلوا لعادوا ، ولو عادوا لاستفادوا وبلغوا ما أرادوا ، وها نحن أولاء نذكرهم بكلام الله لعلهم يرجعون ، ولا نيأس من روح الله (
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ( 12 : 87 ) .
ثم ختم الآية سبحانه وتعالى بقوله : (
وهو بكل شيء عليم ) ( 2 : 29 ) أي فهو المحيط بكيفية التكوين وحكمته وبما ينفع الناس بيانه ، وإذا كان العاقل يدرك أن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من عليم حكيم ، فكيف يصح له أن ينكر عليه أن يرسل من يشاء من خلقه لهداية من شاء من عباده ؟ فهذا الآخر يتصل بأول الآية في تقرير رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم ، وإبطال شبه الذين أنكروا أن يكون البشر رسولا ، والذين أنكروا أن يكون من العرب رسول ؛ لأن قصارى ذلك كله اعتراض الجاهلين على من هو بكل شيء عليم .