ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ، أقول : يطلق العلماء الخطيئة والإثم والذنب والسيئة على المعصية ، ولكل لفظ منها معنى في أصل اللغة يناسبه إطلاق القرآن ، ولا يمكن أن يكون الإثم هنا بمعنى الخطيئة ، ويقول
الراغب : إن الإثم في الأصل اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ، أي : مثل السكر والميسر ; لأنهما يشغلان صاحبهما عن كل عمل صالح ; ولذلك قال - تعالى - :
فيهما إثم كبير ( 2 : 219 ) ، وأما الخطيئة فظاهر أنها من الخطأ ضد الصواب ، وصيغة فعيلة تدل على معنى أيضا فالخطيئة الفعلة العريقة في الخطأ لظهوره فيها ظهورا لا يعذر صاحبه بجهله ، والخطأ قسمان : أحدهما أن تخطئ ما يراد منك ، وهو ما يطالبك به الشرع ويفرضه عليك الدين ، أو ما جرى عليه العرف والعهد ، ويدخل في القسم الثاني ما يخطئه الفاعل من مطالب الشرع : أي يتجاوزه ولو عمدا ، ومن هنا جعلوا الخطيئة بمعنى المعصية مطلقا ، وفسرها
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير هنا بالخطأ والإثم بالعمد ، وقال الأستاذ الإمام : الخطيئة ما يصدر من الذنب عن الفاعل خطأ ، أي : من غير ملاحظة أنه ذنب مخالف للشريعة ، والإثم ما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب ، ويعني بالملاحظة تذكر ذلك وتصوره عند الفعل ، وقال : إن عدم الملاحظة والشعور بالذنب عند فعله قد يكون سببه تمكن داعيته من النفس ووصولها إلى درجة الملكات الراسخة والأخلاق الثابتة التي تصدر عنها الأعمال بغير تكلف ولا تدبر ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، أقول : ويصح أن يكون هذا البيان توجيها لقول من فسر الخطيئة هنا بالمعصية الكبيرة ، والبهتان : الكذب الذي يبهت المكذوب عليه أي : يحيره ويدهشه .
والمعنى : أن من يكسب خطيئة أو إثما ثم يبرئ نفسه منه أي : مما ذكر ، ويرم به بريئا أي : ينسبه إليه ويزعم أنه هو الذي كسبه ، فقد احتمل أي كلف نفسه أن يحمل وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه ، ووزر : الإثم البين الذي كسبه وتنصل منه ، وقد فشا هذا بين المسلمين في هذا الزمان ومع هذا ينسب المارقون ضعفهم إلى دينهم ، وإنما سببه ترك هدايته ، فالحادثة التي نزلت هذه الآيات إثر وقوعها كانت فذة في بابها ، وما زال المفسرون يجزمون بأن المسلمين الذين سرق أو خان بعضهم ، ونصره آخرون وبهتوا اليهودي برميه بجرمه وهو بريء ، لم يكونوا مسلمين إلا في الظاهر ، وإنما هم منافقون في الباطن ; لأن مثل هذا الإثم المبين ، والبهتان العظيم ، لا يكون من المؤمنين الصادقين ، ولكن مثلها صار اليوم مألوفا ، بل وجد في بعضهم من يفتي بجواز خيانة غير المسلمين ، وأكل أموال المعاهدين والمستأمنين بالباطل ، كما علمنا من واقعة حال استفتينا فيها ونشرت الفتوى في المنار ونعوذ بالله من هذا الخذلان .