لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا أقول : تقدم في بيان سبب نزول الآيات التي قبل هذه أن
طعمة الخائن لم يكد يفتضح أمره حتى فر إلى المشركين وأظهر الشرك والطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كأنه كان قد أسلم ليتخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أعوانا ونصراء يعينونه على اتباع الهوى والخيانة بالعصبية على المخالفين ، وما علم أن الإسلام قد جاء ليبطل الخيانة والضلال ، ويمحق الأباطيل ، ويؤيد الحق والفضيلة ، أفلا يسمع هذا المبطلون من أهل أوربة الذين لا يزالون يقلدون قسوس قرونهم المظلمة مثيري الحروب الصليبية في زعمهم أن المسلمين كانوا في العصر الأول جمعية لصوص وقطاع طرق ، ألا يدلوننا على حكومة من أرقى حكوماتهم أوصلها دينها ومدنيتها وعلومها وحضارتها إلى الرضا بمساواة أبنائها وأوليائها بأعدى أعدائها ويشددون في ذلك مثلما شددت الآيات التي تقدم تفسيرها في قضية
طعمة مع اليهودي ؟ كيف ونحن نراهم في بلادنا لا يرضون بالمساواة بيننا وبينهم ، وأن الرجل
[ ص: 330 ] من أشرار جناتهم وتحوت صعاليكهم قد يقتل الواحد من خيار الناس في
مصر فيحاكمه قنصل دولته كما يريد ، ويحكم عليه بأن يغيب عن الأرض التي لوثها بدم الجناية زمنا طويلا أو قصيرا ثم يعود إن شاء الله ؟
فعلى هذا الذي تقدم يكون قوله - تعالى - :
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، وما بعده نزل في سياق تلك القصة ، وأن ضمير نجواهم ، يعود على أولئك المختانين لأنفسهم ، الذين يبيتون في ليلهم من الأقوال ما لا يرضي ربهم ، وهذا هو المختار ، والنجوى : مصدر أو اسم مصدر ومعناه المسارة بالحديث قيل : أصله من النجوة ، وهي المكان المرتفع عما حوله بحيث ينفرد من فيه عمن دونه ، وقيل : من النجاة ، كأنه نجا بسره ممن يحذر اطلاعهم عليه ، ويوصف به فيقال : قوم نجوى ورجلان نجوى ، ومنه قوله - تعالى - في سورة الإسراء
وإذ هم نجوى ( 17 : 47 ) ، ومن استعماله بالمعنى المصدري في القرآن قوله - تعالى - :
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ( 58 : 7 ) ، وقوله :
وأسروا النجوى ، وأجاز المفسرون هنا أن تكون النجوى بمعنى المتناجين أي : المتسارين ، ويكون المعنى : لا خير في كثير من المتناجين الذين يسرون الحديث من جماعة
طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ومن سائر الناس إلا من أمر منهم بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، وهذه الثلاثة هي مجامع الخيرات التي يحتاج فيها إلى النجوى ، فيكون الاستثناء متصلا على ظاهر قواعد النحو ، وأما على القول بأن النجوى هنا بمعنى التناجي ، فالظاهر أن الاستثناء منقطع ، أي : لا خير في كثير من تناجي هؤلاء الناس ، ولكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، فذلك هو الخير الذي يكون في نجواه الخير ، وإلا فإنهم يقدرون للإعراب مضافا محذوفا ، والتقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف إلخ ، وقد تقدم تحرير مثل هذه المسألة في تفسير
ولكن البر من آمن بالله ( 2 : 177 ) ، من سورة البقرة ورأي الأستاذ الإمام فيه [ فليراجع في ص 90 وما بعدها في الجزء الثاني من هذا التفسير ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] .
وقال الأستاذ هنا : إن الكلام في الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ، ولا يستخفون من الله ، ومعناه أن الغالب عليهم الشر ، فهو الذي يجري في نجواهم لأنه أكبر همهم وذكر مسألة الاستثناء ثم قال : إن النكتة في ذكر الكثير هنا هو أن من النجوى ما يكون في الشئون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر ، ولا هي مرادة من الخير ،
[ ص: 331 ] وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي الخير عنها النجوى في شئون الناس ; ولذلك استثنى الأمور الثلاثة التي هي مجامع الخير للناس اهـ .
أقول : إذا كان الكلام هنا في أولئك الخائنين فنفي الخير عن الكثير من نجواهم ظاهر ، ولكننا نرى الكتاب الحكيم يجعل
النجوى مظنة الإثم والشر مطلقا ; ولذلك خاطب المؤمنين بقوله في سورة المجادلة
ياأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 58 : 9 ، 10 ) ، وهذا بعد أن بين أن بعض الناس نهوا عن النجوى ، ثم هم يعودون إليها وهم
اليهود والمنافقون ، والحكمة في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر هي أن العادة الغالبة وسنة الفطرة المتبعة هي استحباب إظهار الخير والتحدث به في الملأ ، وأن الشر والإثم هو الذي يخفى ، ويذكر في السر والنجوى ، وفي الحديث الشريف :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919239الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ، وقلما يكتم الناس شيئا من الخير المطلق المتفق على كونه خيرا ، وإنما الغالب في كتمان بعض الخير وإسراره وجعل الحديث فيه نجوى أن يكون ذلك الخير خيرا للمتناجين وشرا لغيرهم أو مؤذيا له ولو من بعض الوجوه ، كأسرار الحرب والسياسة التي يتوخى بها أهلها نفع أنفسهم وضرر غيرهم فيكتمون أخبارها ويجعلونها نجوى بينهم لئلا تصل إلى خصمهم وعدوهم الذي يضره ما ينفعهم ، وينفعه ما يحبط عملهم ويبطل كيدهم ، ويشبه ذلك ما يكون بين التجار وغيرهم من طلاب الكسب من التناجي فيما يخافون أن يطلع عليه غيرهم فيسبقهم إليه أو يشاركهم فيه ، فإن ما يريدون أن يفوته من الكسب خير لهم وشر لهم .
وهنالك أمور من الخير تتوقف خيريتها أو كمال الخير فيها وخلوه من الشوائب على كتمانه وجعل التعاون عليه سرا والحديث فيه نجوى ، وهو ما ذكره الله - تعالى - من هذه الأمور الثلاثة ، فما استثناها الله - تعالى - من النجوى التي لا خير في أكثرها إلا لأنها يحتاج فيها إلى النجوى ، وإني لم أفطن لهذا إلا عند كتابة تفسير الآية وليس عندي فيه نقل ، وقد عجبت للأستاذ الإمام كيف ذهب عنه فلم يبينه ما لم أعجب لغيره ، فإنه أبو عذرة هذه الدقائق في علم الإنسان والقرآن ; على أنني كنت أود لو كان بين يدي جميع كتب التفسير المعتبرة لأراجع تفسير الآية فيها .
أما
الصدقة فهي من الخيرات التي لا مرية فيها ، وإن إظهارها قد يؤذي المتصدق عليه ويضع من كرامته ، وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة له من
[ ص: 332 ] إيتائه إياها جهرا ولو كان ذلك مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله - تعالى - ; ولهذا قال - عز وجل - :
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ( 2 : 271 ) ، فقد مدحها الله - تعالى - مطلقا ، وجعل إخفاء ما يؤتاه الفقير منها خيرا من إظهاره ; لأن بعض الفقراء يتأذى بالإظهار ويراه إهانة له ، ولو كان جميع الفقراء أو أكثرهم يتأذون بالإظهار لحرمه الله - تعالى - وأوجب الإخفاء إيجابا ، فلما ذم الله - تعالى - النجوى وبين أنه لا خير في كثير منها ، وكان مما قد يترتب على ذلك ألا يتناجى المتعاونون على الخير فيما بينهم في أمر بعضهم بعضا بالصدقة الخفية على المستحقين لها من أهل الحياء والكرامة الذين يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف ، استثنى الحكيم الخبير هذا النوع من النجوى حتى لا يتحاماه المتورعون خوفا أن يدخل فيما لا خير فيه .
وأما المعروف فقد يخفى وجه استثنائه ، وهو في اللغة ضد المنكر ، أي : ما تعرفه وتقره النفوس وتتلقاه بالقبول ، لموافقته للمصالح وانطباقه على الطباع والعقول ، قال بعض أهل الفراسة من العرب : إني لأعرف في عيني الرجل إذا عرف ، وأعرف في عينيه إذا أنكر ، وأعرف فيهما إذا لم يعرف ولم ينكر إلخ ، ولما كان الشرع مهذبا للنفوس ومرشدا للعقول ، ومقوما لما مال وانآد من أحكام الفطرة البشرية بسوء اجتهاد الناس صار أعرف المعروف ما أرشد إليه أو أقره واستحسنه ، وأنكر المنكر ما نهى عنه وذمه وكرهه ، فالذي يؤمر بالمعروف على مسمع من الناس يستاء في الغالب من الآمر ، ولا سيما إذا كان من أقرانه حقيقة أو ادعاء ; لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل واتهاما له بالتقصير أو الجهل ، وإشرافا عليه بالتعليم والتهذيب ، من أجل هذا كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء ، وأقرب إلى القبول والإمضاء ، وكان من هداية اللطيف الخبير أن يدخله في هذا الاستثناء ، ليكف عنه محبو الاستعلاء ، ولا يتأثم به من يعرفون فائدة الإخفاء .
وأما
الإصلاح بين الناس فهو أيضا من الخير الذي قد يترتب على إظهاره والتحدث به في الملأ شر كبير ، وضرر مستطير ، فينقلب الإصلاح المطلوب إفسادا ، وهذا مما لا يكاد يخفى على أحد عاش بين الناس ، واختبر أحوالهم فيما يكون بينهم من الخصام والشقاق والتنازع والصلح والتراضي بسعي محبي الإصلاح ، فإن منهم من إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر زيد من الناس ، لا يستجيب ولا يقبل ، ومنهم من يصده عن الرضا بذلك ذكره بين الناس وعلمهم بأنه كان بسعي وتواطؤ ، ومنهم من يشترط أن يكون خصمه هو الذي طلب مصالحته ، ومنهم من يشترط أن يظن الناس ذلك ، والجهر بالحديث في ذلك قد يبطل ذلك ، فالإصلاح بين الناس يحتاج فيه إلى الكتمان وأن يكون الأمر به والسعي إليه بين من يتعاونون عليه بالنجوى فيما بينهم .
[ ص: 333 ] لو أطلق القول في الكتاب بأن كثيرا من النجوى لا خير فيه ولم يستثن من ذلك شيء لذهب اجتهاد كثير من المتورعين إلى أن هذه الأمور من ذلك الكثير فيتركون النجوى بها خوفا من الوقوع فيما لا خير فيه ، وحينئذ إما أن يرجحوا الجهر بالأمر بها فيفوت الغرض المقصود منها ، ولو في بعض دون بعض ، وإما أن يرجحوا ترك الأمر بها ألبتة ، لئلا يترتب على النفع المقصود من الصدقة الضرر ، وتأخذ من يؤمر بالمعروف العزة بالإثم ، ويتحول إصلاح ذات البين إلى إفساد ، فهذا ما ظهر لي الآن في المسألة .