(
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون )
تقدم في بيان معنى الخليفة أن علم الملائكة وعملهم محدودان ، وأن علم الإنسان وعمله غير محدودين ، وبهذه الخاصة التي فطر الله الناس عليها كان الإنسان أجدر بالخلافة من الملائكة ، وهذه هي حجة الله البالغة على الملائكة التي بينها لهم بعد ما نبههم إلى علمه المحيط بما لا يعلمون فقال : (
وعلم آدم الأسماء كلها ) أي أودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين ، فالمراد بالأسماء المسميات ، عبر عن المدلول بالدليل لشدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له ، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر . والعلم الحقيقي : إنما هو إدراك المعلومات أنفسها ، والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح ، فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف .
قال الأستاذ : ثم إن الاسم قد يطلق إطلاقا صحيحا على ما يصل إلى الذهن من المعلوم ، أي صورة المعلوم في الذهن ، وبعبارة أخرى : ما به يعلم الشيء عند العالم ، فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا بحيث يقال : إننا نؤمن بوجوده ونسند إليه صفاته ، فالأسماء هي ما به نعلم الأشياء ، وهي العلوم المطابقة للحقائق . والاسم بهذا الإطلاق هو الذي جرى
[ ص: 219 ] الخلاف في أنه عين المسمى أو غيره ، وقد كان اليونانيون يطلقون على ما في الذهن من المعلوم لفظ الاسم ، والخلاف في أن ما في الذهن من الحقائق هو عينها أو صورتها مشهور كالخلاف في أن العلم عين المعلوم أو غير المعلوم ، وأما الخلاف في أن الاسم الذي هو اللفظ عين المسمى أو غيره فهو ما أخطأ فيه الناظرون ؛ لعدم الدقة في التمييز بين الإطلاقات لبداهة أن اللفظ غير معناه بالضرورة ، والاسم بذلك الإطلاق الذي ذكرناه هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى (
سبح اسم ربك الأعلى ) ( 87 : 1 ) (
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) ( 55 : 78 ) فاسمه جل شأنه ما يمكننا أن نعلم منه ما نعلم من صفاته ، وما يشرق في أنفسنا من بهائه وجلاله ، ولا مانع من أن نريد من الأسماء هذا المعنى ، وهو لا يختلف في التأويل عما قالوه من إرادة المسميات ولكنه على ما نقول أظهر وأبين .
( وأقول ) : تقدم لنا في أول سورة الفاتحة أن اسم الله - تعالى - يسبح ويعظم ، ومنه إسناد التسبيح إليه قولا وكتابة ، وتسبيحه وتعظيمه بدون ذكر اسمه خاص بالقلب . ومن تعمد إهانة اسم الله - تعالى - يكفر كمن يتعمد إهانة كتابه .
ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم من صيغة التعليم هو التدريج ، قال - تعالى - : (
ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ( 2 : 151 ) وما كان ذلك إلا تدريجا ، وهذا ظاهر في جميع الآيات التي فيها لفظ التعليم كقوله : (
وعلمك ما لم تكن تعلم ) ( 4 : 113 ) وقوله : (
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) ( 3 : 48 ) إلى غير ذلك - ولكن المتبادر من تعليم
آدم الأسماء : أنه كان دفعة واحدة إذا أريد
بآدم شخصه بالفعل أو بالقوة ، ولذلك قال شيخنا :
علم الله
آدم كل شيء - ولا فرق في ذلك بين أن يكون له هذا العلم في آن واحد أو في آنات متعددة ، والله قادر على كل شيء - ثم إن هذه القوة العلمية عامة للنوع الآدمي كله ، ولا يلزم من ذلك أن يعرف أبناؤه الأسماء من أول يوم فيكفي في ثبوت هذه القوة لهم معرفة الأشياء بالبحث والاستدلال ، علم الله
آدم الأسماء على نحو ما بينا (
ثم عرضهم على الملائكة ) أي أطلعهم إطلاعا إجماليا بالإلهام الذي يليق بحالهم على مجموع تلك الأشياء ، ولو عرضت على نفوسهم عرضا تفصيليا لعلموها ولم يكن علمهم محدودا والحال أنه عرضها عليهم وسألهم عنها سؤال تعجيز (
فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ) المسميات ، والغرض من الإنباء بأسمائها الإبانة عن معرفتها ، ومعنى (
إن كنتم صادقين ) أي إن كان هناك موقع للدهشة والاستغراب من جعل الخليفة في الأرض من البشر ، وكان ما طرق نفوسكم وطرأ على أذهانكم أولا حالا محله ، ومصيبا غرضه ، ولما تعرفوا حقيقة ما يمتاز به الخليفة . فأنبئوني بأسماء ما عرضته عليكم .
(
قالوا سبحانك ) أي تنزيها لك ، فلفظ سبحان مصدر قلما يستعمل إلا مضافا كمعاذ الله ، وهو منصوب بفعل مقدر ، والمعنى نقدسك وننزهك أن يكون علمك قاصرا فتخلق الخليفة عبثا ، أو تسألنا شيئا نفيده وأنت تعلم أننا لا نحيط بعلمه ، ولا نقدر على الإنباء به ، وكلمة
[ ص: 220 ] " سبحانك " تهدي إلى هذا فكأنها جملة وحدها ، وهذه هي البلاغة مضروب سرادقها ، مثمرة حدائقها ، متجلية حقائقها . على أن القصة وردت مورد التمثيل ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وبعد تنزيه الباري تبرءوا من علمهم إلى علمه - تعالى - وحكمته فقالوا : (
لا علم لنا إلا ما علمتنا ) وهو محدود لا يتناول جميع الأسماء ولا يحيط بكل المسميات (
إنك أنت العليم ) بخلقك ( الحكيم ) في صنعك .
قال الأستاذ : إن هذه التأكيدات تشعر بأن سؤال الاستغراب الأول كان يتنسم منه شيء ، وكذلك الجواب عن (
أنبئوني ) بقولهم : (
لا علم لنا ) ختموا الجواب بالتبرؤ من كل شيء ، والثناء على الله - تعالى - بالعلم الثابت الواجب لذاته العلية ، والحكمة البالغة اللازمة له ؛ فقد تقدم في تفسير الفاتحة أن صيغة ( فعيل ) تدل غالبا على الصفات الراسخة اللازمة ، فكان جواب الملائكة بهذا مؤذنا بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب ألا يغفل مثلهم عنه ، وهو التسليم لسعة علم الله وحكمته حتى يبلغ الكتاب أجله .
(
قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم ) فكان الإنباء كما أراد الله - تعالى - وذكره لأجل ترتيب الحكم عليه بقوله : (
فلما أنبأهم بأسمائهم قال ) الله - تعالى - للملائكة: (
ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض ) ومن كان هذا شأنه فلا يخلق شيئا سدى ، ولا يجعل الخليفة في الأرض عبثا (
وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) والذي يبدونه هو ما يظهر أثره في نفوسهم ، وأما ما يكتمون فهو ما يوجد في غرائزهم وتنطوي عليه طبائعهم .
وقد علم مما تقدم أن كل هذه الأقوال والمراجعات والمناظرات يفوض السلف الأمر إلى الله - تعالى - في معرفة حقيقتها ، ويكتفون بمعرفة فائدتها وحكمتها ، وقد تقدم بيان ذلك .
وأما الخلف فيلجئون إلى التأويل ، وأمثل طرقه في هذا المقام التمثيل ، وقد مضت
سنة الله في كتابه بأن يبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية ، ويجلي لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام ، وتسهيلا للإعلام ، ومن ذلك أنه عرفنا بهذه القصة قيمة أنفسنا ، وما أودعته فطرتنا ، مما نمتاز به على غيرنا من المخلوقات ، فعلينا أن نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا مستعدين لها من دون الملائكة وسائر الخلق لتظهر حكمة الله فينا ، ولعلنا نشرف على معنى إعلام الله الملائكة بفضلنا ، ومعنى سجودهم لأصلنا (
ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ) ( 24 : 35 ) .