ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا .
روى غير واحد عن
مجاهد أنه قال : قالت العرب لا نبعث ولا نحاسب ، وقالت
اليهود والنصارى :
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وقالوا :
لن تمسنا النار إلا أياما معدودات فأنزل الله
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به .
[ ص: 353 ] وعن
مسروق قال : احتج المسلمون وأهل الكتاب ، فقال المسلمون : نحن أهدى منكم وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم فأنزل الله هذه الآية .
وعن
قتادة قال : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل الله
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب إلى قوله :
ومن أحسن دينا الآية ، فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : التقى ناس من المسلمين
واليهود والنصارى ، فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين
إبراهيم ، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت
النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وديننا بعد دينكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فرد الله عليهم قولهم فقال :
ليس بأمانيكم إلخ .
وعن
الضحاك وأبي صالح نحو ذلك ، بل روى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير نحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ، وذكروا أن الآيات الثلاث نزلت في ذلك .
الأستاذ الإمام : يقال في سبب النزول أنه اجتمع نفر من المسلمين واليهود
والنصارى وتكلم كل في تفضيل دينه فنزل قوله تعالى :
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية ، والمعنى بناء على ذلك : ليس شرف الدين وفضله ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم : إن ديني أفضل وأكمل ، وأحق وأثبت ، وإنما عليه إذا كان موقنا به أن يعمل بما يهديه إليه ، فإن الجزاء إنما يكون على العمل لا على التمني والغرور ، فلا أمر نجاتكم أيها المسلمون منوطا بأمانيكم في دينكم ، ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بأمانيهم في دينهم .
فإن
الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهي ، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء إليها والتمدح بها بلوك الألسنة والتشدق في الكلام ، بل شرعت للعمل ، قال : والآية مرتبطة بما قبلها سواء صح ما روي في سبب نزولها أم لم يصح ; لأن قوله تعالى :
يعدهم ويمنيهم في الآيات التي قبلها يدخل فيه
الأماني التي كان يتمناها أهل الكتاب غرورا بدينهم ، إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص ، ويقولون إنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان
هودا أو
نصارى ، وغير ذلك مما يقولون ويدعون ; وإنما سرى هذا الغرور إلى أهل الأديان من اتكالهم على الشفاعات ، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء لذاتهم ، فهم بكرامتهم
[ ص: 354 ] يدخلون الجنة وينجون من العذاب لا بأعمالهم ، فحذرنا الله أن نكون مثلهم ، وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله تعالى في سورة الحديد :
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ( 57 : 16 ) الآية ، فهذا خطاب للذين كانوا ضعفاء الإيمان من المسلمين في العصر الأول ولأمثالهم في كل زمان ، والله عليم بما كانوا عليه حين أنزل هذه الموعظة وبما آل وما يئول إليه أمرهم بعد ذلك ، ولو تدبروا قوله لما كان لأمثال هذه الأماني عليهم من سلطان ، فقد بين لهم طرق الغرور ومداخل الشيطان فيها ، وقد روي حديث عن
الحسن ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل وقال
الحسن : " إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل " .
ثم ذكر الأستاذ الإمام بعد هذا حال مسلمي هذا العصر في غرورهم وأمانيهم ومدح دينهم وتركهم العمل به وبين أصنافهم في ذلك ، ومما قاله : إن كثيرا من الناس يقولون تبعا لمن قبلهم في أزمنة مضت : إن
الإسلام أفضل الأديان ، أي دين أصلح إصلاحه ؟ أي دين أرشد إرشاده ؟ أي شرع كشرعه في كماله ؟ ولو سئل الواحد منهم : ماذا فعل الإسلام وبماذا يمتاز على غيره من الأديان ؟ لا يحير جوابا وإذا عرضت عليه شبهة على الإسلام وسئل كشفها حاص حيصة الحمر ، وقال : أعوذ بالله أعوذ بالله ، والضال يبقى على ضلاله ، والطاعن في الدين يتمادى في طعنه ، والمغرور يسترسل في غروره ، فالكلام كثير ولا علم ولا عمل يرفع شأن الإسلام والمسلمين ، انتهى ما قاله الأستاذ الإمام بإيضاح لبعض الجمل واختصار في بيان ضروب الغرور وأصناف المغترين .