ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، هذه الآية فتوى أخرى غير الفتاوى المبينة في الآيتين قبلها ، والمستفتون عنها هم الذين كان عندهم زوجتان أو أكثر من قبل نزول
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ( 4 : 3 ) ، ومثلهم من عدد بعد ذلك ناويا العدل حريصا عليه ثم ظهر له وعورة مسلكه ، واشتباه أعلامه ، والتحديد بين ما يملكه وما لا يملكه اختياره منه ، فالورع من هؤلاء يحاول أن يعدل بين امرأته حتى في إقبال النفس ، والبشاشة والأنس ، وسائر الأعمال والأقوال ، فيرى أنه يتعذر عليه ذلك ; لأن الباعث على الكثير منه الوجدان النفسي ، والميل القلبي ، وهو مما لا يملكه المرء ، ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية ، ولوازمه الفطرية ، فخفف الله برحمته على هؤلاء المتقين المتورعين وبين لهم أن
العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ولا يتعلق به التكليف ، كأنه يقول : مهما حرصتم على أن تجعلوا المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن ، وهو حقيقة معنى العدل ، فلن تستطيعوا ذلك بحرصكم عليه ، ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائهما به ، وإذا كان الأمر كذلك في الواقع
فلا تميلوا كل الميل ، إلى المحبوبة منهن بالطبع ، المالكة لما لا تملكه الأخرى من القلب فتعرضوا بذلك عن الأخرى
فتذروها كالمعلقة ، كأنها غير متزوجة وغير مطلقة ، فإن الذي يغفر لكم من الميل وما يترتب عليه من العمل بالطبع ، هو ما لا يدخل في الاختيار ، ولا يكون من تعمد التقصير أو الإهمال ، فعليكم أن تقوموا لها بحقوق الزوجية الاختيارية كلها
وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ، أي : وإن تصلحوا في معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض في المعاملات
[ ص: 366 ] الاختيارية كالقسم والنفقة ، فإن الله يغفر لكم ما دون ذلك مما لا ينضبط بالاختيار ، كالحب ولوازمه الطبيعية من زيادة الإقبال وغير ذلك ; لأن شأنه سبحانه المغفرة والرحمة لمستحقها .
يظن بعض الميالين إلى منع
تعدد الزوجات أنه يمكن أن يستنبط من هذه الآية وآية
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ( 4 : 3 ) ، أن التعدد غير جائز ; لأن من خاف عدم العدل لا يجوز له أن يزيد على الواحدة ، وقد أخبر الله تعالى أن العدل غير مستطاع وخبره حق لا يمكن لأحد بعده أن يعتقد أنه يمكنه العدل بين النساء ، فعدم العدل صار أمرا يقينيا ، ويكفي في تحريم التعدد أن يخاف عدم العدل بأن يظنه ظنا فكيف إذا اعتقده يقينيا ؟
كان يكون هذا الدليل صحيحا لو قال تعالى :
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، ولم يزد على ذلك ، ولكنه لما قال :
فلا تميلوا كل الميل إلخ ، علم أن المراد بغير المستطاع من العدل هو العدل الكامل الذي يحرص عليه أهل الدين والورع كما بيناه في تفسير الآية ، وهو ظاهر من قوله :
ولو حرصتم فإن العدل من المعاني الدقيقة التي يشتبه الحد الأوسط منها بما يقاربه من طرفي الإفراط والتفريط ، ولا يسهل الوقوف على حده والإحاطة بجزئياته ، ولا سيما الجزئيات المتعلقة بوجدانات النفس كالحب والكره ، وما يترتب عليهما من الأعمال فلما أطلق في اشتراط العدل اقتضى ذلك الإطلاق أن يفكر أهل الدين والورع والحرص على إقامة حدود الله وأحكامه في ماهية هذا العدل وجزئياته ويتبينوها كما تقدم آنفا ، فبين لهم سبحانه في هذه الآية ما هو المراد من العدل ، وأنه ليس هو الفرد الكامل الذي يعم أعمال القلوب والجوارح ; لأن هذا غير مستطاع ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
نعم إن في الآية موعظة وعبرة لمن يتأملها من غير أولئك الورعين الحريصين على إقامة حدود الله وأحكامه بقدر الطاقة ، لمن يتأملها ويعتبر بها من عباد الشهوات والأهواء الذين لا يقصدون من الزوجية إلا تمتيع النفس باللذة الحيوانية المؤقتة من غير مراعاة أركان الحياة الزوجية التي بينها الله تعالى في قوله
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ( 30 : 21 ) ، ولا مراعاة أمر النسل وصلاح الذرية ، أولئك السفهاء الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، يتزوجون الثانية لمحض الملل من الأولى وحب التنقل ، ثم الثالثة والرابعة لأجل ذلك ، لا يخطر في بال الواحد منهم أمر العدل ، ولا أنه يجب لإحداهن عليه شيء ، وقد ينوي من أول الأمر أن يظلم الأولى ويهضم حقها ، ولا يشعر بأنه ارتكب في ذلك إثما ، ولا أغضب الله واستهان بأحكامه ، وبين هؤلاء وأولئك قوم يزعمون أنهم على شيء من الدين ومراعاة أحكامه ، يظنون أن العدل بين المرأتين أمر سهل فيقدمون على التزوج بالثانية والثالثة والرابعة قبل أن يتفكروا
[ ص: 367 ] في حقيقة العدل الواجب وماهيته ، ألا فليتق الله الذواقون ! ألا فليتق الله المترفون ! ألا فليتفكروا في ميثاق الزوجية الغليظ ! وفي حقوقها المؤكدة ! ألا فليتفكروا في عاقبة نسلهم ومستقبل ذريتهم ! ألا فليتفكروا في حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على دعائم الشهوات والأهواء وفساد الأخلاق ، والذرية التي تنشأ بين أمهات متعاديات وزوج شهواني ظالم ! ألا فليتفكروا في قوله تعالى :
وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ، وليحاسبوا أنفسهم ليعلموا هل هم من المصلحين لأمر نسائهم ونظام بيوتهم أم من المفسدين ، وهل هم من المتقين الله في هذا الأمر أم من المتساهلين أو الفاسقين ؟