[ ص: 377 ] وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، قالوا : الخطاب عام لجميع من كان يظهر الإيمان من صادق ومنافق ، والذي نزله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى في سورة الأنعام التي نزلت قبل هذه السورة ; لأنها مكية وهذه السورة مدنية
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ( 6 : 68 ) ، نزلت هذه في مشركي
مكة إذ كانوا يخوضون في الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن ، وكان بعض المسلمين يجلسون معهم في هذه الحال ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين ، فأمروا بالإعراض عنهم ، وعدم الجلوس إليهم في هذه الحال ، ثم إن يهود
المدينة كانوا يفعلون فعلي مشركي
مكة ، وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون لهم ، فنهى الله المؤمنين على الإطلاق عن ذلك ومجموع الآيتين يدل على أن بعض ما كان يخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - يراد به أمته ، ومعنى
سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، سمعتم الكلام الذي موضوعه جعل الآيات في موضع السخرية والاستهزاء ، الذي يراد به التحقير والتنفير ، بمجرد السفه وقول الزور .
ويدخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع ، كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . قال في فتح البيان في مقاصد القرآن : وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها دون خصوص السبب دليل على
اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية ، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا : كذا وقال فلان من أتباعه بكذا ، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا أو يلقوا له بالا وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع ، وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامه الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل ، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل مقدما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم براء من فعلهم ; فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم ، كما أوضح
الشوكاني ذلك في " القول المفيد " و " أدب الطلب " اهـ ، ويا ليت هؤلاء الذين جعلوا كلام شيوخهم أصلا للدين ، والكتاب والسنة فرعين أو مهملين ، يتبعون الأئمة الذين يدعون الانتساب إليهم وهم لا يعرفون هديهم ، ولا يتبعونهم ، وإنما يتبع كل أهل عصر شيوخهم على جهلهم .
إنكم إذا مثلهم ، هذا تعليل للنهي ، أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم وشركاء لهم في كفرهم ; لأنكم أقررتموهم عليه ورضيتموه لهم ، ولا يجتمع الإيمان بالشيء وإقرار الكفر والاستهزاء به ، ويؤخذ من الآية أن
إقرار الكفر بالاختيار كفر ، ويؤخذ منه أن
إقرار المنكر والسكوت عليه منكر ، وهذا منصوص عليه أيضا ، وأن إنكار الشيء يمنع فشوه
[ ص: 378 ] بين من ينكرونه حتما ، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان ، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان ، أو بين الطاعة والعصيان ، فإن كثيرا من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات ويستهزئون بالدين ، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم لضعف الإيمان والعياذ بالله تعالى .