إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ، لما بين تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول بغير عذر الظلم ، بين تعالى حكم إبداء الخير وإخفائه سواء كان قولا أو عملا ، وحكم
العفو عن السوء وعدم مؤاخذة فاعله به ، وهو أن فاعلي الخيرات ، جهرا أو سرا ، والعافين عن الناس الذين يسيئون إليهم يجزيهم ، سبحانه وتعالى ، من جنس عملهم ، فيعفو عن سيئاتهم ، ويجزل مثوبتهم ، وكان شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل ، وإذا عفا فإنما يعفو عن قدرة كاملة على العقاب ، فصيغة المبالغة من القدرة ( وهي كلمة قدير ) هي التي تدل على إجزال المثوبة وعلى الترغيب في العفو
[ ص: 7 ] مع القدرة على المؤاخذة ، وإلا كان وضعها في هذا الموضع غير متفق مع بلاغة القرآن . وإذا قال ملك أو أمير لبعض عبيده أو رجال دولته : إن تعمل كذا من الأعمال المرضية فإن عندي مالا كثيرا ، أو بيدي أعلى الأوسمة والرتب ، فإن أحدا لا يفهم من هذا القول أنه يريد أن يجزيه على ذلك بدريهمات يرضخ بها له ، أو رتبة واطئة يوجهها إليه ، أو وسام من الدرجة الدنيا يحليه به ، بل يفهم من هذا كل من يعرف اللغة أن هذا الجزاء يكون عظيما . وإنما ذهبنا إلى أن كلمة " قديرا " قد أفادت بوضعها هنا الدلالة على عظم الجزاء على العمل الذي رغبت فيه الآية ، وعلى استحباب العفو مع القدرة ، ولم نقصرها على الأمر الثاني وحده كما فعل بعضهم ; لأن الأصل في الوعد بالجزاء أن يكون في كل آية أو سياق على جميع ما ذكر فيها من الأعمال ، وفي هذه الآية ذكر إبداء الخير وإخفائه والعفو عن المسيء فلا يصح أن يكون الوعد خاصا بالأخير منها .
الأصل في الشر ألا يفعل - قولا كان أم عملا - إلا لضرورة كالجهر بالسوء ممن ظلم للاستعانة على إزالة الظلم ، والأصل في الخير أن يفعل ، قولا كان أم عملا . وأما
المفاضلة بين إبداء الخير وإخفائه فهي تختلف باختلاف العاملين والباعث على العمل وأثر الإبداء والإخفاء له ، فمن كان كامل الإيمان عالي الأخلاق لا يخاف على نفسه الرياء لا فرق عنده في إبداء الخير وإخفائه من جهة نفسه ، فهو يرجح أحد الأمرين على الآخر بنية صالحة ، أو منفعة بينة ، ومن ليس كذلك ينبغي أن يرجح الإخفاء حتى لا يكون له هوى فيه . ومن بواعث الإبداء قصد القدوة ، ومن بواعث الإخفاء قصد الستر وحفظ كرامة من يوجه إليه الخير كالصدقة على الفقراء المتعففين .