وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله أي : وبسبب قولهم هذا فإنه قول يؤذن بمنتهى الجرأة على الباطل ، والضراوة بارتكاب الجرائم ، والاستهزاء بآيات الله ورسله . ووصفه هنا بصفة الرسالة للإيذان بتهكمهم به عليه السلام ، واستهزائهم بدعوته ، وهو مبني على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم ، لا الألوهية كما تزعم
النصارى . على أن أناجيلهم ناطقة بأنه كان موحدا لله - تعالى - مدعيا للرسالة ; كقوله في رواية إنجيل يوحنا ( 3:17 وهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ،
ويسوع المسيح الذي أرسلته ) .
ويجوز أن يكون قوله :
رسول الله منصوبا على المدح ، أو الاختصاص للإشارة إلى فظاعة عملهم ، ودرجة جهلهم ، وشناعة زعمهم
وما قتلوه وما صلبوه أي والحال أنهم ما قتلوه ، كما زعموا تبجحا بالجريمة ، وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس
ولكن شبه لهم أي وقع لهم الشبهة أو الشبه ; فظنوا أنهم صلبوا
عيسى ، وإنما صلبوا غيره ، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن أي : وإن الذين اختلفوا في شأن
عيسى من
أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره ; أي في حيرة ، وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي . لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض . فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم ، لا لكل فرد من أفرادهم ، هذا إذا كان كما يقول علماء المنطق لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر ، والذين يتبعون الظن في أمره هم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض ، بالقرائن أو بالهوى والميل . والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك ، وأما معناه في أصل اللغة ، فهو نحو من معنى الجهل ، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر ، قال
الركاض الدبيري :
يشك عليك الأمر ما دام مقبلا وتعرف ما فيه إذا هو أدبرا
فجعل المعرفة في مقابلة الشك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12572ابن الأحمر :
وأشياء مما يعطف المرء ذا النهى تشك على قلبي فما أستبينها
وفي لسان العرب أن الشك ضد اليقين . فهو إذا يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق ، وهو ما ترجح أحد طرفيه . فالشك في صلب
المسيح هو التردد فيه ، أكان هو المصلوب
[ ص: 17 ] ، أم غيره ! فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول : إنه هو ، وبعضهم يقول : إنه غيره ، وما لأحد منهما علم يقيني بذلك ، وإنما يتبعون الظن .
وقوله تعالى :
إلا اتباع الظن استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له . وفي الأناجيل المعتمدة عند
النصارى ، أن
المسيح قال لتلاميذه : ( كلكم تشكون ، في ، في هذه الليلة ) أي التي يطلب فيها للقتل ( متى 26 : 31 ومرقس 14 : 27 ) .
فإذا كانت أناجيلهم لا تزال ناطقة بأنه أخبر أن تلاميذه وأعرف الناس به يشكون فيه في ذلك الوقت ، وخبره صادق قطعا ، فهل يستغرب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره ، وقد صارت قصته رواية تاريخية منقطعة الإسناد ؟ !