الدلائل على عدم الثقة بالأناجيل : ألف
سلسوس من علماء الوثنيين في القرن الثاني للميلاد كتابا في إبطال الديانة النصرانية قال فيه كما نقل عنه
أكهارن من علماء ألمانية ما ترجمته : " بدل
النصارى أناجيلهم ثلاث مرات ، أو أربع مرات ، بل أكثر من هذا تبديلا ; كأن مضامينها بدلت " .
وفي كتبهم أن
الفرقة الأبيونية من فرق
النصارى في القرن الأول للميلاد كانت تصدق إنجيل
متى وحده وتنكر ما عداه ، ولكن كان ذلك الإنجيل مخالفا لإنجيل
متى الذي ظهر بعد ظهور
قسطنطين ، وأن
الفرقة المارسيونية من فرق
النصارى القديمة كانت تأخذ بإنجيل لوقا ، وكانت النسخة التي تؤمن بها مخالفة للموجودة الآن ، وكانت تنكر سائر الأناجيل ، وهي عندهم من المبتدعة .
وفي رسالة
بولس إلى أهل
غلاطية ما نصه ( 1 : 6 إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة
المسيح إلى إنجيل آخر ( 7 ) ليس هو آخر ، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ، ويريدون أن يحولوا إنجيل
المسيح ) هكذا في ترجمة
البروتستانت الأخيرة ( يحولوا ) وفي الترجمة القديمة التي نقل عنها كثيرون " يحرفوا " وفي ترجمة
الجزويت " يقلبوا " والمعاني متقاربة تدل كلها على أنه كان في عهد
بولس قوم يدعون الناس إلى إنجيل غير الذي يدعو هو إليه ، ومعنى كونه غيره أنهم حرفوه ، أو قلبوه حتى صار كأنه إنجيل آخر ، وكما اعترف
بولس بهذا اعترف بأنه كان يوجد في عصره رسل كذابون غدارون
[ ص: 31 ] تشبهوا برسل
المسيح . صرح بذلك في رسالته الثانية إلى أهل
كورنثيوس فقال : ( 11:13 لأن مثل هؤلاء رسل كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى رسل
المسيح ( 14 ) ولا عجب لأن الشيطان يغير شكله إلى ملاك نور ( 15 ) فليس عظيما إذا كان خدامه أيضا يغيرون شكلهم كخدام للبر ) .
وفي سفر الأعمال تصريح بأن بعض
اليهود كانوا ينبثون بين
المسيحيين ، ويعلمونهم غير ما يعلمهم رسل
المسيح ، وأن الرسل والمشايخ أرسلوا
بولس وبرنابا إلى
أنطاكية ; لتحذير إخوانهم فيها من الذين يوصونهم بالختان ، وحفظ الناموس الذي لم يأمروهم به ، كما ذكر في الفصل ( 15 ) منه ، وفي آخره أنه حصلت مشاجرة هنالك بين
بولس وبرنابا وافترقا . ومن المعلوم أن
بولس كان عدو
المسيحيين ، وخصمهم ، وأنه لما ادعى الإيمان لم يصدقه جماعة
المسيح عليه السلام ، ولولا أن شهد له
برنابا لما قبلوه ،
وبرنابا يقول في أول إنجيله : إن
بولس نفسه كان من الذين بشروا بتعليم جديد غير تعليم
المسيح . فمع أمثال هذه النصوص في أمهات كتبهم المقدسة كيف يمكن للمسلم أن يثق بها ؟
ومن
الشواهد على التعارض والتناقض في قصة الصلب منها : أن أصل هذه العقيدة أن
المسيح بذل نفسه باختياره فداء وكفارة عن البشر ، مع أن هذه الأناجيل تصرح بأنه حزن واكتأب عندما شعر بقرب أجله ، وطلب من الله أن يصرف عنه هذه الكأس ، ففي
متى : ( 37:26 ) ثم أخذ معه
بطرس ، وابني
زبدى ، وابتدأ يحزن ويكتئب ( 38 ) فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت . امكثوا هنا ، واسهروا معي ( 39 ) ثم تقدم قليلا وخر على وجهه ، وكان يصلي قائلا : يا أبتاه ، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ، ولكن ليس كما أريد أنا . بل كما تريد أنت . فمضى أيضا ثانية ، وصلى قائلا : يا أبتاه ، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس ، إلا أن أشربها ، فلتكن مشيئتك .
ومثل هذا في
لوقا : ( 22 : 43 - 45 ) فكيف يقول
المسيح هذا ، وهو إله عندهم ؟ فهل يمكن أن يجهل ما يمكن ، وما لا يمكن ، وأن يطلب إبطال الطريقة التي أراد الآب - وهو هو عندهم - أن يجمع بها بين عدله ورحمته ؟
ومن الشواهد عليها مسألة اللصين اللذين قالوا : إنهما صلبا معه ، قال
مرقس : ( 15 : 27 وصلبوا معه لصين ; واحدا عن يمينه ، وآخر عن يساره ( 28 ) فتم الكتاب القائل : " وأحصى مع أثمة " إلى أن قال : واللذان صلبا معه كانا يعيرانه . وكذلك قال
متى : ( 27 :44 ) وأما
لوقا فقد سمى الرجلين اللذين صلبا معه : مذنبين ، ولكنه قال : ( 23 : 39 وكان واحد من المذنبين
[ ص: 32 ] المعلقين معه يجدف عليه قائلا : " إن كنت أنت
المسيح فخلص نفسك وإيانا ( 40 ) فأجاب الآخر وانتهره " إلخ . وفيه أن
المسيح بشر هذا بأنه يكون معه في الفردوس ذلك اليوم ، فكانت نبوة الكتاب ( المراد به أشعيا ) أنه يصلب مع أثمة بصيغة الجمع ثم كان الجمع اثنين ولا بأس بذلك ، ولكن كيف يقول اثنان من الإنجيليين المعصومين على رأيهم : إن الذي عيره وأهانه هو أحدهما ، والآخران وهما مثله في عصمته يقولان : بل كلاهما عيراه ؟ ومثل هذه المخالفات والمعارضات في هذه القصة كثيرة ، ومن أظهرها : مسألة دفنه ليلة السبت وقيامه من القبر قبل فجر يوم الأحد ، مع أن البشارة أنه يكون في بطن الأرض ثلاثة أيام بلياليها ، وهي مدة يونان في بطن الحوت .
ومنها : مسألة النساء اللواتي جئن القبر ، وفيها عدة خلافات في وقت المجيء ، ورؤية الملك أو الملكين ورؤيته هو إلخ .
( الشبهة الرابعة ) قولهم : إن كتب العهد العتيق قد بشرت بمسألة الصلب ونوهت بها تنويها .
ونحن نقول : إن هذا غير مسلم . بل أنتم الذين تأولتم عبارات من تلك الكتب وجعلتموها مشيرة إلى هذه القصة ، أو كما قال السيد
جمال الدين : " إنكم فصلتم قميصا من تلك الكتب وألبستموها
للمسيح " كما أنكم تدعون أن الذبائح الوثنية كانوا يشيرون بها إلى صلب
المسيح ، فكأن جميع خرافات البشر وعباداتهم حجج لكم على عقيدتكم هذه ، وإن كانوا قد سبقوكم إلى مثلها . على أن كثيرا من تلك العبارات حجة عليكم لا لكم كما هو مبسوط في محله .
( الشبهة الخامسة ) : يقولون : إذا جاز أن يشتبه في
المسيح ويجهل شخصه الجنود الذين جاءوا للقبض عليه ، والحكام ورؤساء الكهنة الذين طلبوا صلبه بعد القبض عليه ، فهل يجوز أن يشتبه في ذلك تلاميذه ، ومريدوه الذين يعرفونه حق المعرفة ؟
ونقول : إن الجواب على هذا من وجهين ( أحدهما ) : أنه عهد بين الناس أن يشبه بعضهم بعضا شبها تاما بحيث لا يميز أحد المتشابهين المعاشرون والأقربون ، وقد يكون هذا بين الغرباء ، كما يكون بين الأقربين . ولعله يقل في الذين يسافرون ويتقلبون بين الكثير من الناس من لم يقع له الاشتباه بين من يعرف ومن لا يعرف ، وقد وقع لي غير مرة أن أسلم على رجل غريب اشتبه علي بصديق لي ، ثم أعرف بعد الحديث معه أنه غيره ، وإننا لزيادة البيان نورد قليلا من الشواهد عن
الإفرنج الذين يثق دعاة النصرانية عندنا بهم ما لا يثقون بغيرهم ; لأن هؤلاء الدعاة من أبناء جنسهم ، أو مقلدتهم .
قال صاحب " كتاب التربية الاستقلالية " ( أميل القرن التاسع عشر ) حكاية عن كتاب كتبته امرأة الدكتور
إراسم إلى زوجها ما نصه : " لقد كثر ما لاحظت أنه يوجد في بعض الأحوال بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي يوجد بين أفراد
[ ص: 33 ] أسرة واحدة مع أن كلا منهما يكون أجنبيا من الآخر من كل الوجوه ، أتدري من هو الذي حضرت صورته في ذهني عند وقوع بصري على السيدة
وارنجتون ؟ ذلك هو صديقك
يعقوب نقولا ، خلتني أراه في زي امرأة " اهـ . فهذا مثال لرأي الكاتب في تشابه الناس . وفي رسالة نشرت في المجلد الحادي عشر من المنار ما نصه ( ص 368 ) :
" ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادث كثيرة في باب تحقيق الشخصيات دالة على أنه كثيرا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص ويشتبهون عليهم بغيرهم ، وقد ذكر "
جاي " و "
فرير " مؤلفا ( كتاب أصول الطب الشرعي ) في اللغة الإنكليزية حادثة استحضر فيها ( 150 ) شاهدا لمعرفة شخص يدعى "
مارتين جير " فجزم أربعون منهم أنه هو هو ، وقال خمسون : إنه غيره ، والباقون ترددوا جدا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ، ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير
مارتين جير ، وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون ، وعاش مع زوجة
مارتين محاطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه مدة ثلاث سنوات ، وكلهم مصدقون أنه
مارتين ، ولما حكمت المحكمة عليه ; لظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى ، فأحضر ثلاثون شاهدا آخرون ، فأقسم عشرة منهم بأنه هو
مارتين ، وقال سبعة : إنه غيره ، وتردد الباقون ، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539 م ، في فرنسا ، وأمثالها كثير .
" وقد بلغ من شبه بعض الأشخاص لغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم ممن شابههم من الكسور أو الجروح أو آثارها وغير ذلك ، حتى تعسر تمييز بعضهم عن بعض ; ولذلك جد الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين " اهـ .
( الوجه الثاني ) : إن هذه الحادثة من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه
عيسى ابن مريم ، وأنقذه من أعدائه ، فألقى شبهه على غيره ، وغير شكله هو ، فخرج من بينهم وهم لا يشعرون . وفي أناجيلهم وكتبهم جمل متفرقة تؤيد هذا الوجه أشرنا إلى بعضها من قبل ( منها ) قوله لهم : إنهم يشكون فيه يومئذ ( ومنها ) : أنه يتشكل بغير شكله ( ومنها ) : أنه طلب من الله أن يعبر عنه هذه الكأس أي قتله وصلبه إن أمكن . ولا شك أن هذا من الممكنات الخاضعة لمشيئة الله وقدرته .
ويمكن أن يستدل على استجابة الله لدعائه بقول
يوحنا حكاية عنه في سياق قصة الصلب من آخر الفصل 16 " ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم " قال هذا بعد إخبارهم بأنه تأتي ساعة يتفرقون عنه ، ويبقى وحده ، ولكن الله يكون معه ; أي بعونه وحفظه ، وفي هذا المعنى قول
متى ( 26 : 56 حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا ) وقول
مرقس ( 14 :
[ ص: 34 ] فتركه الجميع وهربوا ) فهذا نص في أن التلاميذ كلهم هربوا حين جاء الجند ليقبضوا على
المسيح ، فلم يكن الذين يعرفونه حق المعرفة هنالك .
ومما يدل على استجابة الله دعوته بأن ينقذه ، ويعبر عنه تلك الكأس ، عبارة المزمور ( 109 ) التي يقولون : إن المراد بها
المسيح . وهذا نصها " 26 أعني يا رب ، إلهي ، خلصني حسب رحمتك 27 ، وليعلموا أن هذه يدك ، أنت يا رب فعلت هذا 28 ، أما هم فيلعنون وأما أنت فتبارك ، قاموا وخزوا ، أما عبدك فيفرح 29 ليلبس خصمائي خجلا ، وليتعطفوا بخزيهم كالرداء . أحمد الرب جدا بفمي وفي وسط كثيرين أسبحه 31 لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه " .
وفي العبارات التي يحملونها على
المسيح شواهد أخرى بمعنى هذا .
( الشبهة السادسة ) يقولون : إذا كان
المسيح قد نجا من أعدائه بعناية إلهية خاصة ، فأين ذهب ؟ ولماذا لم يقف له أحد على عين ولا أثر ؟ .
والجواب : أن هذه الشبهة لا ترد على الذين يقولون : إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء ، وإنما ترد على الذين يقولون : إن الله توفاه في الدنيا ، ثم رفعه إليه ، كما رفع
إدريس عليهما السلام ، ويقول هؤلاء : لا غرابة في الأمر ، فإن أخاه
موسى ، عليه السلام ، كان بين الألوف من قومه ، الخاضعين لأمره ونهيه ، وقد انفرد عنهم ، ومات في مكان لم يعرفه أحد منهم ، فكيف يستغرب أن يفر
عيسى ، عليه السلام ، من قوم أعداء له ، لا ولي له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء ، قد انفضوا من حوله وقت الشدة وأنكره أمثلهم (
بطرس ) ثلاث مرات ؟ لا بدع إذا ذهب إلى مكان مجهول ، ومات فيه كما مات
موسى ( عليهما السلام ) ولم يعرف قبره أحد ، كما هو منصوص في آخر سفر ( تثنية الاشتراع ) من أسفار التوراة . ومن الناس من يزعم أن قبر
المسيح الذي دفن فيه بعد موته قد اكتشف في
الهند كما سيأتي .