(
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )
هذه الآية كالتي قبلها واللواتي بعدها تفصيل لنعمة الله على
شعب إسرائيل التي ذكرت من قبل مجملة ، وابتدئ التفصيل بذكر التفضيل لما تقدم من الحكمة في ذكره ، وهو نهوض الهمة إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة والترفع عن الرضا بما دون المقام الذي رفعهم الله إليه ، وتوطين النفس لقبول الموعظة إلى آخر ما تقدم . ثم ذكرهم بما حل بهم من البلاء والعقوبات جزاء على جرائمهم ، وبلطف الله - تعالى - بهم وإنجائهم من البلاء وتوبته عليهم المرة بعد المرة ليعرفهم مقدار فضله وعقوبته معا .
والآية معطوفة على ما قبلها من سلسلة الذكريات فقوله : (
وإذ نجيناكم من آل فرعون ) عطف تفصيل على الإجمال في قوله : (
اذكروا نعمتي ) أي : نعمي الكثيرة ؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم ، أي : واذكروا إذ نجيناكم من
آل فرعون ، وفرعون لقب لمن تولى ملك
مصر قبل
البطالسة ، وإله خاصته ، وقد يطلق على قومه قدماء المصريين ، ولما كانت التنجية لا تكون إلا من ظلم أو شر ، بين ما نجاهم منه بقوله : (
يسومونكم سوء العذاب ) أي : يكلفونكم ويبغونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذاب ، ثم بين ذلك بقوله (
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ) أي : يقتلون ذكران نسلكم ، ويستبقون إناثه أحياء لإضعافكم وإذلالكم المفضي إلى قطع نسلكم وإبادتكم (
وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) أي : وفي ذلكم العذاب وفي التنجية منه - في كل منهما - بلاء وامتحان عظيم لكم من ربكم ، كما قال في آية أخرى : (
وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) ( 7 : 168 ) .
[ ص: 257 ] ( قال الأستاذ الإمام ) في هذه الآية بعد قراءة عبارة الجلال ما مثاله : خاطب الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان لآبائهم ؛ لأن الإنعام على أمة بعنوان أنها أمة كذا ، هو إنعام شامل للأمة من أصابه ذلك الإنعام من أفرادها ومن لم يصبه ، ويصح الامتنان به على اللاحقين منهم والسابقين ، كما يصح الفخر به منهم أجمعين ، كما أن الإنعام على شخص بشيء يختص بعضو من أعضائه كلبوس يلبسه ، أو لذيذ طعام يطعمه ، يكون إنعاما على الشخص ، ولا يقال : إنه إنعام على لسان فلان ولا على رأسه ، أو يده أو رجله ، ولأن ما وصل إلى مجتمع بعنوان ذلك الاجتماع والرابطة التي ربطت أفراده بعضهم ببعض يكون له أثر في مجموع الأفراد ، لا سيما إذا كان الواصل من نقمة أو نعمة مسببا عن عمل الأمة شرا أو خيرا ، ويكون لذلك أثر في الأمة يورثه السلف الخلف ما بقيت الأمة ، وأنواع البلاء التي ذكرها بها
اليهود في القرآن كانت
لشعب إسرائيل من حيث هو
شعب إسرائيل ؛ لأن الجرائم التي كان البلاء عقوبة عليها إنما كانت من مجموع الشعب ، من حيث هو
شعب إسرائيل . ثم إن الله - تعالى - كان يتوب على الشعب بعد كل بلاء ويفيض عليه النعم ؛ فتكون العقوبة تربية وتعليما تفيد المعتبرين بها نعمة وسعادة .
لا أقول : إن هذا الخطاب إيماء أو إشارة للمخاطبين بأن يستحضروا تاريخ أمتهم الماضي ليتذكروا صنع الله - تعالى - فيهم فيعتبروا بما أصابهم من نعماء وضراء ، وسعادة وشقاء ، ويتفكروا فيما حل بهم من بعدهم ، وما ينتظر أن يحل بهم ، وإنما الكلام نص صريح لا يحتاج إلى التأويل ؛ فالروابط الاجتماعية بين أفراد الأمم وجماعاتها كالروابط الحيوية بين أعضاء الشخص الواحد بلا فرق . تعثر الرجل فتخدش أو توثأ ، والألم يلم بالشخص كله من حيث هو شخص حي بحياة واحدة تستوي فيها رجله وسائر أعضائه ؛ ولذلك يسعى بجملته لإزالة ألم الرجل ، ويتوقى أسباب العثار بعد ذلك مستعينا بكل أعضائه وقواه .
علمنا الله - تعالى - هذا بما قص علينا من أخبار الأمم ، وأنعم على أمتنا - التي لا تختص بشعب ولا جنس - بهذا القرآن الكريم فكان لهم به نعم لا تحصى تعرف من الكتاب والسنة ، منها أنهم
كانوا أعداء فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ، ومنها أنهم
كانوا مستضعفين فمكن لهم في الأرض وأورثهم أرض الشعوب القوية وديارهم وجعل لهم السلطان عليهم ، ومنها أنه
جعلهم أمة وسطا لا تفريط عندها ولا إفراط ؛ ليكونوا شهداء على الناس الذين غلوا وأفرطوا ، والذين قصروا وفرطوا ، ثم لما كفرت بأنعم الله أنزل بها ألوانا من البلاء والنقم بعنوان الأمة . فإن التتار إنما نكلوا بها وتبروا ما علوا تتبيرا ؛ لأنها الأمة الإسلامية ، ثم زحف عليها الغربيون أيام حروب الصليب وجاسوا خلال الديار ؛ لأنها الأمة الإسلامية ،
[ ص: 258 ] ثم إن الفتن لا تزال تحل بديارهم ، وتنقصها من أطرافها ، وسوط عذاب الله يصب عليها بعنوان الأمة الإسلامية ، وقد مرت عليها قرون وهي لا تعتبر بما مضى ، ولا تتربى بما حضر ، بل جهلت الماضي فحارت في الحاضر ، لا تعرف سببه ولا المخرج منه .
أليس من العجيب أن الجمهور الأعظم من المشتغلين بالعلم منها هم أجهلها بتاريخها ، لا يعرفون شيئا من ماضيها ولا حاضرها ؟ ولكنهم يعترفون بأن الأمة في بلاء كبير ، ويعتذرون بالقضاء والقدر عن معرفة الأسباب ، ويكلون إلى القضاء والقدر النجاة منه أو البقاء فيه .
إن هذه الأمة أمة واحدة وإن اختلفت ديارها وتعددت أجناسها ، ولا يمكن أن تعرف حقيقتها إلا بعد معرفة تاريخها الماضي ، فلا بد من تتبع السواقي والجداول إلى الينبوع الأول الذي هو الأصل .
كان سلفنا - رضي الله - تعالى - عنهم - يضبطون أحوال من قبلهم من أمور الدين والدنيا بكل اعتناء ودقة ، حتى كانوا يروون البيت من الشعر أو النكتة بين العاشق ومعشوقته بالأسانيد المتصلة ، وليست هذه المبالغة مما يؤخذ عليهم ؛ فإن الأمة إنما تكون أمة بدينها ولغتها وأخلاقها وعاداتها ، فإذا لم يحفظ خلفها عن سلفها هذه المقومات بحفظ تاريخها ، تكون عرضة للتغير بتأثير حوادث الزمان ، وتقلبات شئون الاجتماع مع جهل المتأخر بما كان عليه المتقدم ، وبكيفية حدوث التغيير الضار للجهل بالتاريخ ، بهذا تفعل فواعل الكون بالأمة الجاهلة أفاعيلها حتى تقلب كيانها ، وتقوض بنيانها ، وتقطع عرى الربط العامة بين أفرادها ، فلا يكون لهم عمل إلا للمصلحة الشخصية ، وهي لا حفاظ لها في مجموع الأمة إلا بالمصلحة العامة ، فإذا أهملت تكون الأمة من الهالكين .
عنيت أمتنا بالتاريخ عناية لم تسبقها به أمة ، فلم تكتف بضبط الوقائع وتلقيها بالرواية كالسنة النبوية ، بل تفننت فيها فصنفت في تاريخ الأشخاص كما صنفت في تاريخ البلاد والشعوب ، ثم نوعت تاريخ الأشخاص فجعلت لكل طبقة تاريخا ، فنرى في المكاتب طبقات المفسرين ، وطبقات المحدثين ، وطبقات النحويين ، وطبقات الأطباء ، وطبقات الشعراء ، إلى غير ذلك .
ثم اهتدى بعضهم إلى استنباط قواعد العمران وأصول الاجتماع من التاريخ فصنف
ابن خلدون في ذلك مقدمة تاريخه ، ولو لم تنقطع بنا سلسلة العلم من ذلك العهد لكنا أتممنا ما بدأ به سلفنا ، ولكننا تركناه وسبقنا غيرنا إلى إتمامه واستثماره ؛ فالتاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة
[ ص: 259 ] اليوم إلى ما هي فيه من سعة العمران وعزة السلطان ، وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتاريخ ومعرفة سنن الله في الأمم منه ، وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السنة وسيرة السلف هو المرشد الثاني إلى ذلك ، فلما صار الدين يؤخذ من غير الكتاب والسنة أهمل التاريخ ، بل صار ممقوتا عند أكثر المشتغلين بعلم الدين ، فإن وجد من يلتفت إليه ، فإنما يكون متبعا في ذلك سنة قوم آخرين .
نكتفي الآن بهذا التنبيه ونعود إلى إتمام تفسير الآية التي صرفتنا إليه بمخاطبة
بني إسرائيل في زمن تنزيل القرآن بما كان من تعذيب
آل فرعون لسلفهم ، وإنعام الله عليهم بالإنجاء من ذلك العذاب .
أول من دخل مصر من بني إسرائيل هو يوسف - عليه السلام - ، وانضم إليه بعد ذلك إخوته ونما نسله ونسلهم فيها وكثر ، حتى قيل : إنهم كانوا يوم خرجوا من
مصر ستمائة ألف ، وهذا النمو كان في مدة أربعمائة سنة ، وكان المصريون من
آل فرعون لا يحبون مساكنة الغرباء ، فلما رأى
فرعون نمو
شعب إسرائيل خاف مغبة الأمر ؛ لأنه كان يعلم أنهم إذا كثروا يتبسطون في الأرض ويزاحمون المصريين ، فطفق يستذلهم ويكلفهم الأعمال الشاقة ، كصنع الطوب لبناء الهياكل والبرابي لعلمه بأن الذل يقلل النسل ويفضي بالأمة إلى الانقراض ، ولكنهم ظلوا مع الاستذلال يتناسلون ويكثرون . فلما رآهم الحكام المصريون يزدادون نسلا ، وأنهم مع هذا محافظون على عاداتهم وتقاليدهم ، ولا يمازجون المصريين ، وعندهم الأثرة والإباء ؛ لاعتقادهم أنهم شعب الله وأفضل خلقه ، خافوا أن يقووا بالكثرة فيعدوا عليهم ويغلبوهم على بلادهم كلها أو بعضها ، وإنما كانوا يزدادون على الذل نسلا ؛ لأن الذل لا يؤثر إلا في الزمن الطويل ، ذلك بأن الذليل الذي لا تطلق إرادته في أعماله هو بمنزلة الشخص الذي يضعف عن تناول الغذاء الذي يمد حياته ، فهو يذبل رويدا رويدا حتى ينحل ويموت ، والقوة المعنوية التي تحفظ حياة الأمم هي قوة الأرواح والإرادات ؛ لأن الجسم محمول
[ ص: 260 ] بالروح . والعمل النافع إنما يكون بالإرادة ، فمتى خذلت النفوس بالتسلط على إرادتها تبعها الجسم فيضعف بضعفها ، والضعيف يأتي بنتاج ضعيف ، ويكون نسل نتاجه أضعف من نسله ، ويتسلسل هكذا حتى يكون من لوازم ضعف النسل إسراع الموت إلى صغاره قبل بلوغ سن الرشد ، وبهذا ينقرض النسل ، كما حصل
لهنود أمريكا وسكان شمالي
أستراليا .
استبطأ المصريون أثر الاستذلال في
الإسرائيليين فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم ، واستحياء إناثهم ، فأمر
فرعون القوابل بأن يقتلن كل ذكر
لبني إسرائيل عند ولادته ؛ لأن من سنة الله في الخلق أن قوام الشعوب والقبائل وحفظ الأجناس إنما يكون بالذكور . وقال مفسرنا ( الجلال ) تبعا لغيره : إن سبب العذاب وتقتيل الأبناء دون البنات هو أن بعض الكهنة أخبر
فرعون بأن سيولد من
بني إسرائيل ولد ينزع منه ملكه ، ويكون على يديه هلكه .
( قال الأستاذ الإمام ) : وليس لهذا القول سند صحيح ولا يعرف في التاريخ ، وما قلناه هو الذي يعرفه
بنو إسرائيل ، ويتناقلونه في كتبهم المعروفة بالمقدسة وغير المقدسة ، وهو المعقول في نفسه أيضا .