ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم نادى الله - تعالى - بهذه الآية جميع الناس في سياق خطاب أهل الكتاب ; لأن الحجة إذا قامت عليهم بشهادة الله - تعالى - بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم الإيمان به ، فبالأولى تقوم على غيرهم ممن ليس لهم كتاب ككتابهم ، وذكر الرسول ههنا معرفا ; لأن أهل الكتاب قد بشروا به ، وكانوا ينتظرون بعثته ، بعنوان أنه الرسول الكامل ، الذي هو المتمم الخاتم ، ومما يدل على أن اليهود كانوا
[ ص: 66 ] ينتظرون من الله مسيحا ونبيا بشر بهما أنبياؤهم ، ما جاء في أوائل الفصل الأول من إنجيل يوحنا ، وهو أنهم أرسلوا بعض الكهنة واللاويين إلى
يوحنا ( يحيى عليه السلام ) ليسألوه من هو . وكانت قد ظهرت عليه علامات النبوة فسألوه أأنت المسيح ؟ قال : لا ، قالوا : أأنت النبي ؟ قال : لا . والشاهد أنهم ذكروا له النبي بلام العهد ، فلا شك أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية في زمن التنزيل تذكر مجيء الرسول المعرف بصيغة التحقيق ، قد فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به
موسى - صلى الله عليه وسلم - في التوراة ( وهو في سفر تثنية الاشتراع )
وعيسى في الإنجيل ( وسيأتي شاهد منه في تفسير الآية التالية لهذه ) وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ، ومن لم يعرف شيئا من أمر هذه البشارات يفهم من التعريف معنى آخر هو صحيح ومراد ، وهو أن التعريف لإفادة أن هذا الرسول هو الفرد الكامل في الرسل لظهور نبوته ، ونصوع حجته ، وعموم بعثته ، وختم النبوة والرسالة به ، ومعنى كونه جاء الناس بالحق من ربهم : أنه جاءهم بالقرآن الذي هو أبلغ بيان للحق ، وأظهر الآيات المؤيدة له ، واختيار لفظ الرب هنا للإشعار بأن هذا الحق الذي جاء به يقصد به تربية المؤمنين وتكميل فطرتهم ، وتزكية نفوسهم ; ولهذا قال
فآمنوا خيرا لكم أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا ، فإن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ; لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس الحسية والمعنوية ، ويؤهلكم للسعادة الأبدية ، هذا هو التقدير المتبادر عندي وعليه
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ، وأما
الخليل وتلميذه
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه فيقدران : واقصدوا بالإيمان خيرا لكم ، أي مما أنتم عليه . وقال
الفراء : فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، ويدل على ما اخترناه قوله في مقابله :
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض أي إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم ، وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وما يترتب عليه من سوء عملكم ; لأن له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وعبيدا ، وكل يعبده طوعا أو كرها ، أما عبادة الكره وعدم الاختيار فبالخضوع للسنن والأقدار ، وهي عامة في جميع الخلق حتى ما ليس له إدراك ولا عقل ، وأما عبادة الاختيار ، فخاصة بالمؤمنين الأخيار ، والملائكة الأبرار ، وأمثالهم من جنود الله
وكان الله عليما حكيما أي وكان شأنه العلم المحيط والحكمة الكاملة كما يظهر ذلك في جميع أفعاله وأحكامه وسننه ، فلا يخفى عليه شيء من أمركم في إيمانكم وكفركم ، ولا يعدو حكمته أمر جزائكم ، وحاشا علمه وحكمته أن يخلقكم عبثا ، وأن يترككم بعد ذلك سدى ، كلا إنه يجزي كل نفس بما تسعى ، فطوبى لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا .