وأما قوله :
وروح منه ففيه وجهان ( أحدهما ) : أن معناه أنه مؤيد بروح منه تعالى ، ويوضحه قوله فيه
وأيدناه بروح القدس ( 2 : 253 ) وقال في
صفات المؤمنين الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كان من ذوي القربى
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ( 58 : 22 ) .
( وثانيهما ) : أن معناه أنه خلق بنفخ من روح الله ، وهو
جبريل عليه السلام ، ويوضحه قوله - تعالى - في أمه :
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ( 21 : 91 ) وقال - تعالى - فيها :
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 19 : 17 ) كما قال في خلق الإنسان بعد ذكر بدئه من طين :
ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 32 : 8 ، 9 ) وقال بعضهم : إن
المراد بالروح هنا النفخ أي نفخ الملك بأمر الله في
مريم ، فإنه استعمل بمعنى النفخ والنفس الذي ينفخ ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة في إضرام النار :
فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واجعلها لها فيئة قدرا
والروح الذي يحيا به الإنسان مأخوذ من اسم الريح ( وأصل الريح روح بالكسر ، فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة ، وجمعه أرواح ، وأصل هذا رواح بالكسر ) كما أن اسم النفس بسكون الفاء من النفس بفتحها .
ويجوز أن يراد بقوله تعالى :
وروح منه الأمران معا ; أي أنه خلق بنفخ الملك المعبر عنه بالروح وبروح القدس ، في أمه نفخا كان كالتلقيح الذي يحصل باقتران الزوجية ، وكان
[ ص: 69 ] مؤيدا بهذا الروح مدة حياته ; ولذلك غلبت عليه الروحانية ، وظهرت آيات الله فيه زمن الطفولية وزمن الرجولية
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ( 5 : 110 ) فلما كان كذلك أطلق عليه أنه روح كأنه هو عين ذلك الملك الذي جعله الله سبب ولادته وأيده به مدة حياته ، كما يقال : " رجل عدل " على سبيل المبالغة والمراد : ذو عدل ، وقال بعض المفسرين : إن المراد بالروح هنا : الرحمة ، كقوله - تعالى - في المؤمنين :
وأيدهم بروح منه ( 58 : 22 ) ويقويه قوله - تعالى - فيه
ولنجعله آية للناس ورحمة منا ( 19 : 21 ) ويمكن إدخال هذا المعنى في الوجه الأول ; لأنه من فروعه ، والمعنى الجامع أن الروح ما به الحياة . والحياة قسمان : حسية ومعنوية ; فالأولى : ما يشعر به الإنسان ويدرك ويتفكر ويتذكر ، والثانية : ما به يكون رحيما حكيما فاضلا محبا محبوبا نافعا للخلق ، وقد سمى الله الوحي روحا فقال لخاتم رسله :
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ( 42 : 52 ) وقال :
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ( 16 : 2 ) وكلا المعنيين متحقق في
عيسى ، عليه السلام ، على وجه الكمال ، فلهذا جوزنا الوجهين في المسألة .
وآية الله - تعالى - في خلق عيسى بكلمته ، وجعله بشرا سويا بما نفخ فيه من روحه ، كآيته في خلق
آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه ; إذ كان خلق كل منهما بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( 3 : 59 ) .
وقد علم مما قررناه أن قوله : منه متعلق بمحذوف ، صفة لـ روح أي وروح كائنة منه ، وزعم بعض
النصارى أن " من " للتبعيض ، وأن
عيسى جزء من الله ، بمعنى أنه ابنه ، ونقل المفسرون أن طبيبا نصرانيا
للرشيد ناظر
علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن
عيسى ، عليه السلام ، جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ له
nindex.php?page=showalam&ids=15472الواقدي قوله ، تعالى :
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ( 45 : 13 ) وقال : يلزم إذا أن تكون جميع هذه الأشياء أجزاء منه تبارك وتعالى ، فانقطع النصراني وأسلم ، ففرح
الرشيد بإسلامه ، ووصل
nindex.php?page=showalam&ids=15472الواقدي بصلة فاخرة .
أما أناجيل
النصارى وكتبهم فقد استعملت لفظ الروح في معان مختلفة فيما يتعلق
بالمسيح وفي غير ما يتعلق به ، فمن ذلك قول متى : ( 1 : 18 أما ولادة
يسوع المسيح فكانت هكذا ، لما كانت
مريم أمه مخطوبة
ليوسف ، قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ) وفي الفصل الأول من إنجيل
لوقا تفصيل لظهور الملك
جبريل لها ، وتبشيره إياها بولد ، ومحاورتهما في ذلك ، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها : ( 53 الروح القدس يحل عليك ) فروح
[ ص: 70 ] القدس ليس هو الله ، ومن يؤيده الله به لا يكون إلها ، ففي هذا الفصل نفسه من إنجيل لوقا أن ( اليصابات )
أم يحيى امتلأت من الروح القدس ( 41 ) وبذلك حملت
بيحيى وكانت عاقرا ، وأن
زكريا أباه امتلأ من الروح القدس ( 67 ) وفي الفصل الثاني منه ما نصه : " 25 وكان رجل في
أورشليم اسمه
سمعان ، وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر تعزية
إسرائيل والروح القدس كان عليه ( 26 ) وكان قد أوحي إليه بالروح القدس " وهذا الاستعمال كثير عندهم لا حاجة لإضاعة الوقت بكثرة إيراد الشواهد فيه ، وإنما نقول : إن روح القدس عندهم وعندنا واحد ، وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصي عددهم غيره تعالى ، والقدس : الطهر ، ويذكر في مقابله في الأناجيل الروح النجس ، أي : الشيطان ، فجعلوه إلها كما فعل الوثنيون من قبل .
وجملة القول أن هذه الأناجيل تدل على ما ذكرناه آنفا من كون
عيسى خلق بواسطة روح القدس ، وأن
يحيى خلق كذلك وكان خلقه آية من وجه آخر ، إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ، ولكن الواسطة والسبب واحد ، وهو الملك المسمى بروح القدس ، أيدهم الله به نساء ورجالا عليهم السلام ، فمن الحماقة أن يقول قائل مع هذا : إن
قوله تعالى وروح منه يفيد أنه جزء من الله - تعالى - جل شأنه عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه ، بل يقولون : إن تلاميذ المسيح أنفسهم كانوا مؤيدين بروح القدس حتى من طرده المسيح ولعنه منهم وسماه شيطانا ، وقد أيد به من كان دونهم أيضا .
علمنا أن مؤلفي الأناجيل يستعملون كلمة روح القدس استعمالا يدل على أنه ملك من خلق الله ، ولكن يوحنا قد انفرد بعبارات يمكن إرجاعها إلى استعمال غيره ، ويمكن تحريفها للاستدلال بها على شيء آخر كما فعلوا ، فهم يقولون : إن الروح منبثق من الآب وإنه عين الآب ، ويستدلون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن
المسيح : ( 15 : 16 ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق من عند الآب ينبثق ، فهو يشهد لي ) أصل الانبثاق : أن يكسر الماء ما أمامه من سد على الشط ، ويفيض على ما وراءه ، وفي قراءة أخرى في ترجمة
البروتستانت " يخرج " فمن هذه الكلمة استنبطوا عقيدة وثنية تنقضها نصوص كثيرة في الأناجيل .
وهذه الجملة خبر عن شيء يكون في المستقبل ( وفرق بين ينبثق من عنده وبين انبثق منه على أن هذه لا تدل على ما زعموا أيضا ) وهي بشارة من
المسيح بمن يرسله الله - تعالى - بعده الذي عبروا عنه هنا بالمعزي ، وكلمة المعزي ترجمة للبارقليط ، وهي كلمة يونانية معناها (
محمد أو
أحمد ) وتقرأ بالاستقامة وبالإمالة ، فلا يحتاج في تحريفها عن المعنى الذي
[ ص: 71 ] قلناه إلى معنى المعزي الذي قالوه ، إلا إلى لي اللسان بها ليا قليلا ، وقد ترجمت في
إنجيل برنابا (
بمحمد ) فكانت هذه الترجمة موضع الاستغراب عند كثير من الناس ظانين أن برنابا نقل عن
المسيح أنه نطق بكلمة
محمد العربية ، والظاهر أنه نطق بترجمتها ، ومن عادة أهل الكتاب ترجمة الأعلام والألقاب ، على أن " روح الحق " من جملة أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما ترى في أسمائه المسرودة في دلائل الخيرات . وقد بين
يوحنا في الفصل السادس عشر من إنجيله تفصيلا عن
المسيح ، عليه السلام ، لبشارته بالبارقليط ، منه أنه خير لهم أن يذهب هو من الدنيا ; لأنه إذا لم يذهب لا يأتي البارقليط ، وأنه متى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البر والحساب ( الدينونة ) وفسر الخطيئة بعدم الإيمان به ، أي
المسيح ، ومنه أنه هو - أي
المسيح - لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء ; لعدم استعدادهم وعدم طاقتهم الاحتمال ، قال : وأما متى جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ; لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ( 14 ) ذاك يمجدني ; لأنه يأخذ مما لي ويخبركم . ولم يجئ بعد
المسيح أحد من عند الله وبخ الناس وبكتهم على عدم الإيمان بالمسيح وعلى طعن بعضهم فيه وفي أمه ، وعلى غلو طائفة فيهما وجعلهما إلهين مع الله ، وعلم الناس كل شيء من أمور العقائد والآداب والفضائل والأحكام الشخصية والمدنية ، وأخبر بالأمور المستقبلية - لم يجئ أحد بكل هذا إلا روح الحق
محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو منبثق من الله أي مرسل منه لإحياء الناس ، كما يرسل الله الغيث لإحياء الأرض ، وفي الحديث أنه شبه بعثته بالغيث الذي تأخذ منه كل أرض بحسب استعدادها . فإذا كانت عبارة يوحنا تدل على أن روح الحق الذي بشر به
المسيح ، وأنه يأتي بعده تدل بلفظ الانبثاق على ما قالوا ، فليجعلوا
محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو الأقنوم الثالث أو أقنوما رابعا ، وينتقلوا من التثليث إلى التربيع ، لا ، لا أقول لهم أصروا على هذا التأويل والتضليل ، بل أقول لهم ما قاله الله عز وجل :
لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إلى قوله ، تعالى :