(
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )
المراد بالقرية : المدينة ، وهي في الأصل اسم لمجتمع الناس ومسكن النمل الذي يبنيه ، ومادتها تدل على الاجتماع ، ومنها قريت الماء في الحوض إذا جمعته ، وأطلقت على الأمة نفسها ، ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة ولا يصح هنا ؛ فإن الرغد لا يتيسر للإنسان كما يشاء إلا في المدن الواسعة الحضارة .
( قال شيخنا ) : ونسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن ، فقد أمر
بنو إسرائيل بدخول بلاد كثيرة . وكانوا يؤمرون بدخولها خاشعين لله خاضعين لأمره مستشعرين عظمته وجلاله ونعمه وأفضاله ، وهو معنى السجود وروحه المراد هنا .
[ ص: 269 ] وأما صورة السجود من وضع الجباه على الأرض فلا يصح أن تكون مراده ؛ لأنها سكون والدخول حركة وهما لا يجتمعان ، والمراد بالحطة : الدعاء بأن تحط عنهم خطايا التقصير وكفر النعم ، وتبديل القول بغيره عبارة عن المخالفة ، كأن الذي يؤمر بالشيء فيخالف قد أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بخلافه ، يقال : بدلت قولا غير الذي قيل ، أي جئت بذلك القول مكان القول الأول .
وهذا التعبير أدل على المخالفة والعصيان من كل تعبير ، خلافا لما يتراءى لغير البليغ من أن الظاهر أن يقال : بدلوا القول بغيره ، دون أن يقال : غير الذي قيل لهم ، فإن مخالف أمر سيده قد يخالفه على سبيل التأويل مع الاعتراف به ، فكأنه يقول في الآية : إنهم خالفوا الأمر خلافا لا يقبل التأويل ، حتى كأنه قيل لهم غير الذي قيل ، وليس المعنى أنهم أمروا بحركة يأتونها ، وكلمة يقولونها ، وتعبدوا بذلك ، وجعل سببا لغفران الخطايا عنهم ، فقالوا غيره وخالفوا الأمر ، وكانوا من الفاسقين . وأي شيء أسهل على المكلف من الكلام ، يحرك به لسانه ، وقد اخترع أهل الأديان من ذلك ما لم يكلفوا قوله لسهولة القول على ألسنتهم ، فكيف يقال أمر هؤلاء بكلمة يقولونها فعصوا بتركها ؟ إنما يعصي العاصي إذا كلف ما يثقل على نفسه ، ويحملها على غير ما اعتادت ، وأشق التكاليف حمل العقول على أن تفكر في غير ما عرفت ، وحث النفوس على أن تتكيف بغير ما تكيفت .
وذهب المفسر (
الجلال ) إلى ترجيح اللفظ على المعنى ، والصورة على الروح ، ففسر السجود ككثير من غيره بالانحناء ، وقال : إنهم أمروا بأن يقولوا ( حطة ) فدخلوا زحفا على أستاههم ، وقالوا : حبة في شعيرة ، أي : أننا نحتاج إلى الأكل . منشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية ، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خدع بها المفسرون ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله - تعالى .
وأقول : إن ما اختاره
الجلال مروي في الصحيح ، ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية ، وسنبين ذلك في تفسير المسألة من سورة الأعراف مع المقابلة بين العبارات المختلفة في السورتين ، وبيان وجوهها ، وتحقيق معاني ألفاظها .
ويدل على قوله - تعالى - : (
فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ) على أن هذا العصيان لم يكن من كل
بني إسرائيل ، وأن هذا الرجز كان خاصا بالظالمين منهم الذين فسقوا عن الأمر ولم يمتثلوه ، وقد أكد هذا المعنى أشد التأكيد بوضع المظهر موضع المضمر ، فقال : (
فأنزلنا على الذين ظلموا ) ولم يقل : فأنزلنا عليهم ؛ ولعل وجه الحاجة إلى التأكيد الاحتراس من إبهام كون الرجز كان عاما ، كما هو الغالب فيه ، ثم أكده بتأكيد آخر ، وهو قوله : (
بما كانوا يفسقون ) وفي هذا الضرب من المقابلة من تعظيم شأن المحسنين ما فيه .
[ ص: 270 ] وأقول الآن : القاعدة أن ترتيب الحكم على المشتق يدل على أن مصدره علة له كقوله : (
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ( 5 : 38 ) : فالسرقة علة للقطع . والموصول مع صلته هنا كذلك ، والمعنى (
فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ) بسبب ظلمهم ، ثم أكد هذا السبب الخاص العارض المعبر عنه بالفعل الماضي ببيان سبب عام يشمله ويشمل غيره هم يفعلونه دائما وهو قوله : (
بما كانوا يفسقون ) أي بسبب تكرار الفسوق والعصيان منهم ، واستمرارهم عليه ، الذي كان هذا الظلم منه .
( قال الأستاذ ) : ونسكت عن تعيين نوع ذلك الرجز ، كما هو شأننا في كل ما أبهمه القرآن . وقال المفسر وغيره : إنه الطاعون ، واحتج بعضهم عليه بقوله - تعالى - : ( من السماء ) وهو كما تراه . والرجز : هو العذاب ، وكل نوع منه رجز . وقد
ابتلى الله بني إسرائيل بالطاعون غير مرة ، وابتلاهم بضروب أخرى من النقم في إثر كل ضرب من ضروب ظلمهم وفسوقهم ، ومن أشد ذلك تسليط الأمم عليهم ، وحسبنا ما جاء في القرآن عبرة وتبصرة ، فنعين ما عينه ، ونبهم ما أبهمه (
والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) .