(
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
هذا بيان لحال آخر من
أحوال بني إسرائيل في هجرتهم وعناية الله - تعالى - بهم ، فيها أصابهم الظمأ فعادوا على
موسى باللائمة أن أخرجهم من أرض
مصر الخصبة المتدفقة بالأمواه ، وكانوا عند كل ضيق يمنون عليه أن خرجوا معه من
مصر ويجهرون بالندم .
فاستغاث
موسى بربه واستسقاه لقومه ، كما قصه الله - تعالى - علينا بقوله : (
وإذ استسقى موسى لقومه ) أي طلب السقيا لهم من الله - تعالى - (
فقلنا اضرب بعصاك الحجر ) قال الأستاذ الإمام : أمره أن يضرب بعصاه حجرا من حجارة تلك الصحراء بتلك العصا التي ضرب بها البحر ، فضربه (
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) بعدد أسباطهم ، وذلك قوله - عز وجل - : (
قد علم كل أناس مشربهم ) .
( قال ) : وكون هذا الحجر هو الذي روي أنه تدحرج بثوب
موسى يوم كان يغتسل كما قال المفسر (
الجلال ) لا دليل عليه ، وقصة الثوب ليست في القرآن ، فيحمل تعريف
[ ص: 271 ] الحجر على أنه المعهود في القصة ، وإنما يفهم التعريف أن الحجر الذي ضرب فتفجرت منه المياه حجر مخصوص له صفات تميزه عندهم ، ككونه صلبا أو عظيما تتسع مساحته لتلك العيون ، ويصلح أن تكون منه موارد لتلك الأمم ، ( أو كونه يقع تحت أعينهم منفردا عن غيره ، ليس في محلتهم سواه ، وقد يكون التعريف للدلالة على الجنس ؛ ليفيدنا بعد المرغوب عن التناول ، وعظمة القدرة الإلهية وأثرها الجليل في تقريبه وتحصيله ) وعبر عنه في سفر الخروج بالصخرة ولو علم الله - تعالى - أن لنا فائدة في أكثر مما دل عليه هذا الخطاب من التعيين لما تركه .
ثم أراد أن يصور حال
بني إسرائيل في هذه النعمة ، واغتباطهم بما منحهم من العيش الرغد في مهاجرهم ، فقال : (
كلوا واشربوا من رزق الله ) فعبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر سامع الخطاب أولئك القوم في ذهنه ، ويتصور اغتباطهم بما هم فيه ، حتى كأنهم حاضرون الآن والخطاب يوجه إليهم ، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي لا تجارى ولا تمارى ، ثم قال : (
ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) أي لا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا في الشرور قدوة سيئة للناس . يقال : عثا إذا نشر الشر والفساد وأثار الخبث ، فهو أخص من مطلق الإفساد وذلك مع كون ( مفسدين ) حالا من ضمير ( تعثوا ) .
قال الأستاذ الإمام : إن كثيرا من أعداء القرآن يأخذون عليه عدم الترتيب في القصص ، ويقولون هنا : إن الاستسقاء وضرب الحجر كان قبل التيه وقبل الأمر بدخول تلك القرية ، فذكر هنا بعد تلك الوقائع . والجواب عن هذه الشبهة يفهم مما قلناه مرارا في
قصص الأنبياء والأمم الواردة في القرآن ، وهو أنه لم يقصد بها التاريخ وسرد الوقائع مرتبة بحسب أزمنة وقوعها ، وإنما المراد بها الاعتبار والعظة ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها ، وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها ، ومتى كان هذا هو الغرض من السياق ، فالواجب أن يكون ترتيب الوقائع في الذكر على الوجه الذي يكون أبلغ في التذكير وأدعى إلى التأثير .
إن الباحثين في التاريخ لهذا العهد قد رجعوا إلى هذا الأسلوب في التقديم والتأخير ، وقالوا : ستأتي أيام يستحيل فيها ترتيب الحوادث والقصص بحسب تواريخها لطول الزمن ، وكثرة النقل مع حاجة الناس إلى معرفة سير الماضين ، وما كان لها من النتائج والآثار في حال الحاضرين ، وقالوا : إن الطريق إلى ذلك هو أن ننظر في كل حادثة من حوادث الكون كالثورات والحروب وغيرها ، ونبين أسبابها ونتائجها من غير تفصيل ولا تحديد لجزئيات الوقائع بالتاريخ ، فإن ترتيب الوقائع هو من الزينة في وضع التأليف ، فلا يتوقف عليه الاعتبار ، بل ربما يصد عنه بما يكلف الذهن من ملاحظته وحفظه ، فهذا ضرب من ضروب الإصلاح العلمي ، جاء به القرآن وأيده سير الاجتماع في الإنسان .
[ ص: 272 ] هذا ما نقوله له إذا سلمنا أن الاستسقاء كان قبل التيه لا فيه ، ولنا أن نقول : إن أرض التيه هي الأرض الممتدة على ساحل البحر الأحمر من بيداء
فلسطين مما يلي حدود
مصر ، وفيها كان الاستسقاء بلا خلاف . ( وفي سفر الخروج ) أنه كان في رفيديم التي انتقل إليها
بنو إسرائيل من ( سين ) التي بين
إيليم وسيناء . ويطلق التيه على ضلال
بني إسرائيل أربعين سنة في الأرض .
والعبرة في القصة على ما يظهر من التوراة أن
موسى كان يحاول نزع ما في قلوب قومه من الشرك الذي أشربوا عقائده في
مصر ، وما في نفوسهم من الذل الذي طبعه فيها استبداد المصريين وتعبيدهم إياهم ؛ ليكونوا أعلياء أعزاء بعبادة الله - تعالى - وحده ، وأن يدخل بهم أرض الميعاد ، وهي بلاد
الشام التي وعد الله بها آباءهم ، وكانوا لطول الإقامة في
مصر قد ألفوا الذل وأنسوا بالشعائر والعادات الوثنية ، فكانوا لا يخطون خطوة إلا ويتبعونها بخطيئة ، وكلما عرض لهم شيء من مشقات السفر يتبرمون
بموسى ويتحسرون على
مصر ويتمنون الرجوع إليها ( كما سبق القول ) ويستبطئون وعد الله ، فتارة يطلبون منه أن يجعل لهم إلها غير الله ، وتارة يصنعون عجلا ويعبدونه ، وتارة يفسقون عن أمر ربهم ويكفرون نعمه . ولما أمرهم بدخول البلاد المقدسة التي وعدهم الله أبوا واعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين ، لما استحوذ عليهم من الجبن الذي هو حليف الذل ، وكان
موسى أرسل
كالبا ويوشع بن نون رائدين لينظرا حال البلاد في القوة والضعف ، وأرسل غيرهما عشرة من بقية أسباط
بني إسرائيل ، فأخبر هؤلاء بأن في تلك الأرض قوما جبارين ، فقال
بنو إسرائيل : إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فأخبر
يوشع وكالب بأن الأرض كما وعد الله ، وأن دخولها سهل والظفر مضمون بالاعتماد على الله - تعالى - والتوكل عليه ، فلم يسمعوا لهما بل (
قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ) ( 5 : 24 ) ، فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة لحكمة بالغة ؛ وهي إرادة انقراض أولئك القوم الذين تأشبت في نفوسهم عقائد الوثنية ، وزايلتها صفات الرجولية حتى فسد مزاجها وتعذر علاجها ، وخروج نشء جديد يتربى على العقائد الصحيحة وأخلاق الشهامة والرجولية ، فتاهوا حتى انقرض أولئك المصابون باعتلال الفطرة ، وبقي النشء الجديد وبعض الذين كانوا عند الخروج من
مصر صغارا لا يقدرون على حمل السلاح ، وقضى الله أمرا كان مفعولا .