1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة
صفحة جزء
وأما الوجه الثالث : فقد عقد له مسألة خاصة ( وهي المسألة الرابعة ) استغرقت خمس عشرة صفحة من الكتاب ، بين فيها بالأدلة والأمثلة والشواهد أنه لم يصح في السنة [ ص: 136 ] حكم لا أصل له في القرآن ، بل كل ما ورد في ذلك له أصل هو بيان له ، فليراجع ذلك من شاء .

أما المسلك الذي سلكه ( الشاطبي ) في إرجاع بعض الأحكام الثابتة في السنة إلى القرآن ; فهو أنه ذكر الأصول الكلية التي تدور عليها أحكام القرآن في جلب المصالح ودفع المفاسد من الضروريات والحاجات والتحسينات ، وبين أن كل ما في السنة راجع إليها ، وضرب الأمثلة في الضرورات الخمس الكلية ، وهي : حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض ، وقال : " ويلحق بها مكملاتها والحاجات ، ويضاف إليها مكملاتها ، ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد - أي من كتابه هذا - وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور ; فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها ، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها ، فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام .

ثم بين أن الحاجات تدور على قطب التوسعة والتيسير والرفق ورفع الحرج ، وأصل ذلك في القرآن ، وبيان السنة له بالعمل والقول ، وأن التحسينات كالحاجات ، فإنها ترجع إلى الآداب ومحاسن الأخلاق ، وأصلها في القرآن ، وبيان السنة لها كذلك بما هو أوضح في الفهم ، وأشفى في الشرح ، وبين مسلك السنة في الاجتهاد في القرآن والقياس على أصوله وعلله ; لحفظ مقاصدها وبيانها للناس وأخذ المعنى العام من مجموع أدلته المتفرقة ، وفقه مقاصده منها .

وقد أورد الشواهد على ذلك والأمثلة له ، مثال من ذلك قوله في أصل حفظ المال : وله أمثلة ، أحدها : أن الله ، عز وجل ، حرم الربا وربا الجاهلية الذي قالوا فيه : " إنما البيع مثل الربا " هو فسخ الدين في الدين ، يقول الطالب : إما أن تقضي ، وإما أن تربي . وهو الذي دل عليه أيضا في قوله : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ( 2 : 279 ) فقال صلى الله عليه وسلم : " وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله " وإذا كان كذلك ، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ، ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى . وذكر حديث بيع الأصناف الستة سواء بسواء يدا بيد ، ومن أراد الاطلاع على أمثلة كل نوع مما ذكره فليرجع إلى كتابه .

وقال في أواخر هذه المسألة : ( فصل ) وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا : إن القرآن لم ينبه عليها ، فقوله صلى الله عليه وسلم : يوشك رجل منكم متكئ على أريكته إلى آخره ، لا يتناول ما نحن فيه ; فإن الحديث إنما جاء في من يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن ، وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه ، بل هو رأي أولئك الخارجين [ ص: 137 ] عن الطريقة المثلى ، وقوله : " ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله " صحيح على الوجه المتقدم ، إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه ، وإما بالطريقة القياسية ، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة . اهـ .

أقول : الحديث الذي ذكر بعضه اكتفاء بذكره كله في الحجج التي أوردها على قاعدته هو حديث المقدام بن معدي كرب ، رواه أحمد وابن ماجه والحاكم ، بلفظ : يوشك أن يقعد الرجل متكئا على أريكته يحدث من حديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ; فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله وسنده حسن ، فيه زيد بن الحباب ، قال فيه الإمام أحمد : إنه صدوق كثير الخطأ ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ووصفه بكثرة الخطأ أيضا ، وتكلموا في أحاديث له عن سفيان تستغرب ، وقد تركه الشيخان لذلك ، واللفظ الآخر : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ; مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا ندري ، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي رافع ، وقال الترمذي : حسن ، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا .

ومن القواعد التي يجب مراعاتها في هذا الباب ما ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المباحات لكراهته لا لتحريمه ، أو للمنع منه مؤقتا لعلة عارضة ، ويوشك أن النهي عن أكل لحوم السباع من الأول ، وعن الحمر الأهلية مع الإذن بأكل الخيل يوم خيبر من الثاني ، لولا ما روي بلفظ التحريم ، ومثال العلة العارضة : قلة الشيء مع الحاجة إليه ، كما تنهى بعض الحكومات أحيانا عن بيع الخيل في أيام الحرب ، أو عن ذبح البقر لشدة الحاجة إليها في الفلاحة . وقد يرد الحديث بلفظين ; أحدهما : لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر : لفظ بمعناه بحسب فهم الراوي ، فقد روى مسلم ، وأصحاب السنن ما عدا الترمذي ، من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير . وعن أبي هريرة أنه قال : كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ، فيجوز أن يكون روى أحدهما بالمعنى ، فإن كان حديث أبي هريرة هو المروي بالمعنى يجوز حمل النهي على الكراهة ، فلا يكون الحديث معارضا لحصر المحرمات فيما حصرها فيه القرآن ، وفي معناه حديث أبي ثعلبة الخشني عند الجماعة ما عدا البخاري ، وأبا داود ، وله روايات أخرى ، ولعل مالكا كان يفهم منه هذا ، فقد روي عنه قول بكراهة أكل هذه الأشياء ، وقول بإباحتها ، وقد فات هذا صاحب الموافقات مع أنه من فقهاء مذهب مالك ، وسنعود إلى مسألة السباع في تفسير الآية الآتية .

التالي السابق


الخدمات العلمية