(
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين )
[ ص: 282 ] أطمع الله - تعالى - بالآية السابقة
بني إسرائيل في رحمته بعدما قرعهم بالنذر التي تكاد توقع اليأس في قلوبهم ، وبين لهم ولسائر الناس أن المنفذ إلى هذا الطمع ، بل الباب الذي يؤدي إلى هذا الرجاء هو الجمع بين الأمرين اللذين بعث لتقريرهما الأنبياء - عليهم السلام - ، وهما الإيمان الصحيح اليقيني والعمل الصالح ، وإشراك غير
بني إسرائيل في هذا الحكم لا يقضي بانتهاء السياق ، بل لا يزال الكلام في
بني إسرائيل ؛ ولذلك عقب ذلك الإطماع بالتذكير ببعض الوقائع التي استحقوا فيها العقوبة فحالت دون وقوعها الرحمة فقال : (
وإذ أخذنا ميثاقكم ) وهو العهد الذي أخذه عليهم وتقدم الكلام فيه ، وأما قوله : (
ورفعنا فوقكم الطور ) فقد ذكر المفسرون فيه قصة وهي : أن الله - تعالى - ظلل
بني إسرائيل بالطور ، وهو الجبل المعروف وخوفهم برفعه فوقهم ؛ ليذعنوا ويؤمنوا ، ثم اعترض عليه بعضهم بأنه إكراه على الإيمان وإلجاء إليه ، وذلك ينافي التكليف ، وأجيب بأجوبة منها : أن ما يفعل بالإكراه يعود اختياريا بعد زوال ما به الإكراه ، ومنها : أن مثل هذا الإلجاء والإكراه كان جائزا في الأمم السابقة ، ويزيد من قال هذا : أن
نفي الإكراه في الدين الخاص بالإسلام لقوله - تعالى - : (
لا إكراه في الدين ) ( 2 : 256 ) وقوله : (
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ( 10 : 99 )
قال الأستاذ الإمام : لا حاجة لنا في فهم كتاب الله إلى غير ما يدل عليه بأسلوبه الفصيح ، فهو لا يحتاج في فهمه إلى إضافات ولا ملحقات ، وقد ذكر لنا مسألة رفع الطور فوق
بني إسرائيل ولم يقل إنه أراد بذلك الإكراه على الإيمان ، وإنما حكى عنهم في آية أخرى أنهم ظنوا أنه واقع بهم ، فقد قال - تعالى - في سورة الأعراف : (
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) ( 7 : 171 ) والنتق : الزعزعة والهز والجذب والنفض ، ونتق الشيء ينتقه وينتقه - من بابي ضرب ونصر - نتقا ، جذبه واقتلعه ، وقد يكون ذلك في الآية بضرب من الزلزال ، كما يدل عليه التعبير بالنتق وهو في الأصل بمعنى الزعزعة والنفض ، والمفهوم من أخذ الميثاق أنهم قبلوا الإيمان وعاهدوا
موسى عليه . فرفع الطور وظنهم أنه واقع بهم ، من الآيات التي رأوها بعد أخذ الميثاق ، كان لأجل أخذ ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد ؛ لأن رؤية الآيات تقوي الإيمان ، وتحرك الشعور والوجدان ؛ ولذلك خاطبهم عند رؤية تلك الآية بقوله : (
خذوا ما آتيناكم بقوة ) أي تمسكوا به واعملوا بجد ونشاط ، لا يلابس نفوسكم فيه ضعف ، ولا يصحبها وهن ولا وهم ، ثم قال : (
واذكروا ما فيه ) أي بالمحافظة على العمل به ؛ فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها . ويؤثر عن
nindex.php?page=showalam&ids=8أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - أنه قال : يهتف العلم بالعمل . فإن أجابه وإلا ارتحل . وذلك أن العلم إنما يحضر في النفس مجملا غير سالم من إبهام وغموض ، فإذا برز للوجود بالعمل صار تفصيليا جليا ، ثم ينقلب النظري
[ ص: 283 ] منه بالتكرار والمواظبة بديهيا ضروريا ، وبذلك يثبت فلا ينسى . وأما النسيان فإنه حليف الكفر ، وإنه ليصل بالإنسان إلى حد يساوي فيه من لم تسبق له معرفة بالشيء قط ؛ لأنه لا أثر له في النفس ولا في الظاهر . ولا فرق بين من بلغته دعوة الهداية فسلم بها وقبلها ثم ترك العمل بها حتى نسيها ، وبين من لم تبلغه ألبتة ، ومن بلغته على وجه غير مقنع ، فلم يؤمن إلا بما تكون الحجة به على الأول أظهر ، وكونه بالمؤاخذة أجدر ، والثاني معذور عند الجماهير ، وكذلك الثالث إذا استمر على النظر من غير تقصير ، فعلى هذا تكون منزلة الناسي هي التي تلي منزلة الجاحد المعاند ، وهو خليق بأن يحشر يوم القيامة أعمى عن طريق النجاة والسعادة ، حتى إذا لقي ربه (
قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) ( 20 : 125 ، 126 ) .
وأقول : إن في هذا الحجة على قراء القرآن ، الذين ليس لهم منه إلا التغني بألفاظه وأفئدتهم هواء لا أثر فيها للقرآن ، وأعمالهم لا تنطبق على ما جاء به القرآن ، وهذا شر نوعي النسيان ، وقد ضرب له
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبو حامد الغزالي مثل : عبيد أقطعهم سيدهم بستانا وكلفهم إصلاحه وعمارته ، وكتب لهم كتابا يبين لهم فيه كيف يسيرون في هذا الإصلاح ، وكيف تكون حياتهم فيه ، ووعدهم على الإحسان بمكافأة وأجر فوق ما يستفيدونه من ثمرات البستان وغلاته ، وتوعدهم على الإساءة في العمل بالعقوبة الشديدة وراء ما يفوتهم من خيرات البستان ، وما يذوقون من مرارة سوء المعاملة فيما بينهم ، فكان حظهم من الكتاب تعظيم رقه وورقه ، والتغني بلفظه ، وتكرار تلاوته ، بدون مبالاة بالأمر والنهي ولا اعتبار بالوعد والوعيد فيه ، بل عاثوا في أرض البستان مفسدين فأهلكوا الحرث والنسل ، فهل يكون حظ هؤلاء من الكتاب غير أنه حجة عليهم ، وقاطع لألسنة العذر منهم ؟ !
أمرهم بالذكر الذي يثبت بالعمل ، ووصله بذكر فائدته وهي إعداده النفس لتقوى الله - عز وجل - ، فقال : (
لعلكم تتقون ) ، فإن المواظبة على العمل بما يرشد إليه الكتاب تطبع في النفس ملكة مراقبة الله - تعالى - فتكون بها نقية تقية ، راضية مرضية (
والعاقبة للتقوى ) ( 20 : 132 ) .
وبعد أن ذكر لهم تلك الآية ، وما اتصل بها من الهداية ، ذكرهم بما كان منهم من التولي عن الطاعة والإعراض عن القبول ، ثم امتن عليهم بما عاملهم به من الفضل والرحمة ، والصفح عما يستحقونه من المؤاخذة والعقوبة ، فقال : (
ثم توليتم من بعد ذلك ) أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة من بعد أخذ الميثاق ومشاهدة الآيات التي تؤثر في القلوب ، وتستكين لها النفوس (
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ) أي إنكم بتوليكم استحققتم العقاب ، ولكن حال دون نزوله بكم فضل الله عليكم ورحمته بكم ، ولولا ذلك لخسرتم
[ ص: 284 ] سعادة الدنيا ، وهي التمكن في الأرض المقدسة التي تفيض لبنا وعسلا ، ثم خسرتم سعادة الآخرة وهي خير ثوابا وخير أملا . فمن فضله وإحسانه أن وفقكم للعمل بالميثاق بعد ذلك .
شايع الأستاذ الإمام المفسرين على أن
رفع الطور كان آية كونية ، أي أنه انتزع من الأرض وصار معلقا فوقهم في الهواء ، وهذا هو المتبادر من الآية بمعونة السياق ، وإن لم تكن ألفاظها نصا فيه ، إذ الرفع والارتفاع هو جعل الشيء - أو أن يكون الشيء - رفيعا عاليا كما قال - تعالى - : (
فيها سرر مرفوعة ) ( 88 : 13 ) وقال : (
وفرش مرفوعة ) ( 56 : 34 ) فكل من السرر والفرش تكون مرفوعة وهي على الأرض . وقوله - تعالى - في آية الأعراف : (
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ) ( 7 : 171 ) ليس نصا أيضا في كون الجبل رفع في الهواء . فأصل النتق في اللغة : الزعزعة والزلزلة كما سبق . قال في حقيقة الأساس نتق البعير الرحل : زعزعه ، ونتقت الزبد : أخرجته بالمخض ، ونتق الله الجبل : رفعه مزعزعا فوقهم . ا هـ .
والظلة : كل ما أظلك سواء كان فوق رأسك أو في جانبك ، وهو مرتفع له ظل ، فيحتمل أنهم لما كانوا بجانب الطور رأوه منتوقا ، أي مرتفعا مزعزعا ، فظنوا أن سيقع بهم ، وينقض عليهم ، ويجوز أن ذلك كان في أثر زلزال تزعزع له الجبل ، وقد سبق القول ببطلان كون ذلك إرهابا للإكراه على قبول التوراة ، وإذا صح هذا التأويل ، لا يكون منكر ارتفاع الجبل في الهواء مكذبا للقرآن .