وأما
صيد الجوارح فقد قيد النص حله بأن يكون الجارح الذي صاده مما أدبه الناس وعلموه الصيد حتى يصح أن ينسب الصيد إليهم ، ويكون قتل الجارح له كتذكية مرسله إياه ، فيخرج بذلك عن أن يكون من الفرائس ، ويمسك الصيد على الصائد ، وذلك أن قوله :
فكلوا مما أمسكن عليكم أي : فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم ، أي تصيده لأجلكم ، فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه ، فإن أكلت منه لا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور ; لأنه مثل فريسة السبع المحرمة في الآية السابقة ، بل هي منها ; لأن الكلاب ونحوها من السباع ، وكذلك تسمى السباع كلابا ، ومنه حديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=919304اللهم سلط عليه كلبا من كلابك روى
أحمد ، والشيخان عن
nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بن حاتم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919305إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك ، إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل ; فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وفي رواية : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919306إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك ، فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ; فإن أخذ الكلب ذكاة " الحديث متفق عليه ، والحكم مجمع عليه .
وروي عن بعض السلف الأخذ بظاهر عموم
مما أمسكن فقالوا : كل ما جاء به الكلب أو غيره ، أكل منه أو لم يأكل ، فهو قد أمسكه على صاحبه ، فله أكله .
روى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره نحو هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وسعد ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وسلمان أنهما قالا : وإن أكل ثلثيه ، وبقي الثلث فكل ، وعليه
مالك .
وفرق آخرون بين الكلاب ونحوها من السباع وبين الطير
[ ص: 144 ] كالبازي ; فأباحوا ما أكل منه الطير دون ما أكل منه الكلب . روى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي . ومن أسباب الخلاف في المسألة الخلاف في حد التعليم الذي اشترطه الكتاب في حل صيد الجوارح ، وأكد اشتراطه حتى لا يتساهل المسلم الضعيف النفس في أكل فضلات الكلاب والسباع ، وقد اكتفى بعض العلماء في حد التعليم بطاعة الكلب ونحوه لمعلمه ثلاث مرات ، روي هذا عن
أبي يوسف ،
ومحمد بن الحسن ، وعن
أبي حنيفة : مرتين ، وعند الشافعية : العبرة بالعرف . وحقيقة التعليم عند الجمهور أن يطلب الكلب أو البازي أو غيرهما الصيد إذا أغري به ، ويجيب إذا دعي ، ويسمى ذلك إشلاء واستشلاء ، ولا ينفر من صاحبه ، وأن يمسك الصيد عليه ، وموضع الخلاف في هذا الإمساك المنصوص هل يشترط فيه ألا يأكل الجارحة منه شيئا قط ؟ أم يعد كل ما جاء به إمساكا على صاحبه ، وإن أكل بعضه ؟ الجمهور على الأول وهو الذي قدمناه ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث
عدي المتفق عليه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919307فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وهذا الحديث معارض بحديث أبي ثعلبة الخشني ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صيد الكلب :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919308إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله - تعالى - فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك رواه
أبو داود ، وفي إسناده
nindex.php?page=showalam&ids=15859داود بن عمرو الأودي الدمشقي عامل واسط وثقه
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين . وقال
أحمد : حديثه مقارب . وقال
أبو زرعة : لا بأس به . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي : ولا أرى برواياته بأسا ، وقال
العجلي ليس بالقوي ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12013أبو زرعة الرازي هو شيخ .
ومعنى قوله : ما ردت يدك ، ما صدته بيدك مباشرة ، قال
الحافظ ابن كثير : وقد طعن في حديث
ثعلبة ، وأجيب بأنه صحيح لا شك فيه ، وفي رواية أخرى له عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919309كل ما ردت عليك قوسك وكلبك " زاد
ابن حرب :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919310المعلم ويدك ; فكل ذكيا وغير ذكي قال
الخطابي في تفسير " ذكي وغير ذكي " : يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون أراد بالذكي ما أمسك عليه ، فأدركه قبل زهوق نفسه فذكاه في الحلق أو اللبة ، وغير الذكي : ما زهقت نفسه قبل أن يدركه . والثاني : أن يكون أراد بالذكي : ما جرحه الكلب بسنه أو مخالبه فسال دمه ، وغير الذكي : ما لم يجرحه . اهـ . والأول أظهر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى أخذ الكلب ذكاة كما تقدم . والحديث يدل على حل
ما صاده الإنسان بيده فمات بأخذه ولم يذكه ; لأن موته بيده ليس دون موته بأخذ الكلب ونحوه ، وله
nindex.php?page=showalam&ids=15397وللنسائي أيضا من طريق
ابن شعيب عن أبيه عن جده ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=919311أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة ، قال : يا رسول الله ، إن لي كلابا مكلبة ( كمعلمة وزنا ومعنى ) فأفتني في صيدها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك قال : ذكيا أو غير ذكي ؟ قال : نعم ، قال : فإن أكل منه ؟ قال : وإن أكل منه قال : يا رسول الله أفتني في قوسي . [ ص: 145 ] قال : كل ما ردت عليك قوسك قال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : " ذكي وغير ذكي " قال : وإن تغيب عني ؟ قال : " وإن تغيب عنك ، ما لم يصل - أي : ينتن - أو يتغير أو تجد فيه أثر غير سهمك " ثم سأله عن
آنية المجوس ، فأفتاه بغسلها والأكل فيها . قال
الحافظ ابن حجر : ولا بأس بإسناده ، وقد اختلفوا في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ولهم فيه أقوال كثيرة ، سببها أنه لم يسمع كل ما رواه عن جده ، بل كان عنده صحيفة مكتوبة أو كتاب ، وهو ما يسمونه " الوجادة " فمن ههنا ضعفه بعضهم ، وممن وثقه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وإن لم يرو عنه في صحيحه ; لما له من الشروط فيه غير ثقة الراوي ، قال : رأيت
أحمد وعليا ،
وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، فمن الناس بعدهم ؟ ! والتحقيق ما قاله
الذهبي : " لسنا نقول إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح ، بل هو من قبيل الحسن " .
فإذا كان حديث
أبي ثعلبة مما يحتج به كما تقدم وهو معارض لحديث
عدي ، والجمع بينهما ممكن بحمل النهي في حديث
عدي على كراهة التنزيه ، فلم لا يصار إليه ؟ قال بعضهم : إن
عديا كان موسرا فاختير له الحمل على الأولى ، بخلاف
أبي ثعلبة ; فإنه كان أعرابيا فقيرا ، وردوا هذا بتعليل الحديث بخوف أن يكون إنما أمسك على نفسه ، وأقول : إن مفهوم هذا التعليل أن من علم بالقرينة أنه أمسك عليه فله أن يأكل منه ، وإن أكل الجارح قطعة منه لشدة جوعه - مثلا - كما يأكل من سائر طعام معلمه ، وإن علم بالقرينة أنه إنما صاد لنفسه وأمسك لها لعدم انتهاء تعليمه وتكليبه ، فليس له أن يأكل إلا إذا اعتقد أن النهي لكراهة التنزيه ، كما قال بعضهم والخوف من الإمساك على نفسه ترجيح له .
أما " من " في قوله تعالى :
مما أمسكن عليكم فذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير إلى أنها للتبعيض ، فإن ما يمسكه الجارحة حلال لحمه حرام فرثه ودمه ، فيؤكل بعضه وهو اللحم . ورد قول بعض النحويين أنها زائدة . وأقول : هي هنا مثلها في قوله تعالى :
كلوا من الطيبات ( 23 : 51 )
كلوا من طيبات ما رزقناكم كلوا واشربوا من رزق الله ( 2 : 60 )
كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ( 2 : 168 )
كلوا من ثمره إذا أثمر ( 6 : 141 ) فـ " من " في كل ذلك للابتداء على أصل معناها ، فإن كانت للتبعيض ; فلأنه الواقع غالبا ، لا لإفادة حل بعض ما ذكر وتحريم بعض . ثم قال تعالى :