ثم قال عز وجل :
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم للاتصال بين هذه الآية وما قبلها مناسبة غير سرد أحكام الطعام وبيان أحكام الحلال والحرام ، وهي أن سبب مشروعية التذكية التفصي من أكل المشركين للميتة ، وسبب التشديد في التسمية على الطعام من صيد وذبيحة هو إبعاد المسلمين عما كان عليه المشركون من الذبح لغير الله - تعالى - بالإهلال به لأصنامهم ، أو وضعها على النصب واستبدال اسم الله وحده بتلك الأسماء التي سموها هم وآباؤهم ، ما أنزل الله بها من سلطان ، ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك ، ولما كان أهل الكتاب في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليهم نزغات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين ، ولم يشددوا في الفصل بينهم وبين ماضيهم ، وكان هذا مظنة التشديد في مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم ، كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب ونكاح نسائهم ، بين الله لنا في هذه الآية : ألا نعامل أهل الكتاب معاملة المشركين في ذلك ، فأحل لنا مؤاكلتهم ، ونكاح نسائهم ، وقد يستشكل إحلال الطيبات في ذلك اليوم على القول بأن المراد به يوم عرفة سنة حجة الوداع ، فإن حلها ذكر في بعض السور المكية كالأعراف ، ويجاب بأن المراد أنها كانت حلالا بالإجمال ، فلما حرم الله يوم إنزال هذه السورة أنواع الخبائث التي تدخل في عموم الميتة ، كما تقدم في الآية السابقة ، وكانت العرب تستحلها ، ونفى تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من طيبات الأنعام ، وكانت العرب تحرمها - صار حل الطيبات مفصلا تمام التفصيل ، وحكمه مستقرا دائما ، فهذا هو المراد بالنص ، وقيل : إنه تمهيد لما بعده .
وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح أو اللحوم ; لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل ، ولم تحرم من المشركين ، وإلا فالظاهر أنه عام يشملها ، ومذهب الشيعة أن المراد بالطعام : الحبوب أو البر ; لأنه الغالب فيه ، وقد سئلت عن هذا في مجلس كان أكثره منهم وذكرت الآية ، فقلت : ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن ; فقد قال الله - تعالى - في هذه السورة ، أي المائدة :
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ( 5 : 96 ) ولا يقول أحد إن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب ، وقال :
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ( 3 : 93 ) ولم يقل أحد إن المراد بالطعام هنا البر أو الحب مطلقا ; إذ لم يحرم شيء منه على بني إسرائيل ، لا قبل التوراة ولا بعدها ، فالطعام في الأصل كل ما يطعم ; أي يذاق أو يؤكل ، قال - تعالى - في ماء النهر حكاية عن طالوت :
فمن شرب منه فليس مني ، ومن لم يطعمه فإنه مني ( 2 : 249 ) وقال :
فإذا طعمتم فانتشروا ( 33 : 53 ) أي أكلتم وليس الحب مظنة التحليل والتحريم ، وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك ; لوصف حسي كموت
[ ص: 148 ] الحيوان حتف أنفه ، وما في معناه ، أو معنوي كالتقرب به إلى غير الله ; ولذلك قال تعالى :
قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ( 6 : 145 ) الآية ، وكله يتعلق بالحيوان ، وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر ; فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص ، وقد شدد الله فيما كان عليه مشركو العرب ; من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح للأصنام ; لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة .
وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح لغير الله ، ولأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام ، وخفف في معاملة أهل الكتاب ; استمالة لهم حتى إن ابن جرير روى عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء وابن زيد ، أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس ، فأفتيا بأكله ، قال
ابن زيد : أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا . وأما
nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء فقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها " جرجس " أهدوه لها : أنأكل منه ؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء للسائل : اللهم عفوا ، إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا ، وطعامنا حل لهم ، وأمره بأكله .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير أيضا
وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم والنحاس ،
والبيهقي في سننه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، في قوله :
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ( 5 : 5 ) قال : ذبائحهم . وروى مثله
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
مجاهد ،
وعبد الرزاق عن
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي ، وقد أجمع الصحابة والتابعون على هذا ، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية ، ووضعت له السم في ذراعها ، وكان الصحابة يأكلون من طعام
النصارى في الشام بغير نكير ، ولم ينقل عن أحد منهم خلاف ، إلا في
بني تغلب ، وهم بطن من العرب انتسبوا إلى
النصارى ، ولم يعرفوا من دينهم شيئا ، فنقل عن
علي كرم الله وجهه أنه لم يجز أكل ذبائحهم ، ولا نكاح نسائهم ; معللا ذلك بأنهم لم يأخذوا من
النصارى إلا شرب الخمر ، يعني أنهم على شركهم ، لم يصيروا أهل كتاب ، واكتفى جمهور الصحابة بانتمائهم إلى النصرانية ، روى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
عكرمة ، قال : سئل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن
ذبائح نصارى بني تغلب ، فقرأ هذه الآية :
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ( 5 : 51 ) وفي رواية له عنه أنه قال : كلوا من ذبائح
بني تغلب ، وتزوجوا من نسائهم فإن الله - تعالى - قال . . . وقرأ الآية . فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم ; أي يكفي في كونهم منهم نصرهم لهم ، وتوليهم إياهم في الحرب .
ولما كان من شأن كثير من الناس التعمق في الأشياء ، وحب التشديد مع المخالفين ، استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد ، وهي : هل العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب كالتوراة والإنجيل كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم ، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل ، وبأهله الأصليين ; كالإسرائيليين من اليهود ؟ المتبادر من نص القرآن ومن السنة وعمل الصحابة
[ ص: 149 ] أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل ; فالله - تعالى - قد أحل أكل طعام أهل الكتاب ، ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل ، وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن ; وكان أهل الكتاب من شعوب شتى ، وقد وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم ، ونسوا حظا مما ذكروا به ، في هذه السورة نفسها ، كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها ، ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك ، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى :
لا إكراه في الدين ( 2 : 256 ) أن سبب نزولها محاولة بعض
الأنصار إكراه أولاد لهم كانوا تهودوا ، على الرجوع إلى الإسلام ، فلما نزلت أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخييرهم ، ولا شك أنه كان في يهود
المدينة وغيرهم كثير من العرب الخلص ، ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء الراشدون بينهم في حكم من الأحكام .
واستنبط بعضهم علة أخرى لتحريم طعام أهل الكتاب والتزوج منهم ، وهي إسناد الشرك إليهم في سورة التوبة بقوله تعالى :
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( 9 : 31 ) مع قوله في سورة البقرة
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ( 2 : 221 ) وهذا هو عمدة الشيعة في هذه المسألة ، وأجيب عنه .
( أولا ) : بأن الشرك المطلق في القرآن ، إذا كان وصفا أو عد أهله صنفا من أصناف الناس لا يدخل فيه أهل الكتاب ، بل يعدون صنفا آخر مغايرا لهذا الصنف ، كما قال تعالى :
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ( 98 : 1 ) وقال :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ( 22 : 17 ) الآية .
( وثانيا ) : بأننا إذا فرضنا أن " المشركين " في آية البقرة عام ، فلا مندوحة لنا عن القول بأن هذه الآية قد خصصته ، أو نسخته لتأخرها بالاتفاق ، ولجريان العمل عليها ، ومنه أن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة بن اليمان من أكبر علماء الصحابة قد تزوج يهودية ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة .