1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة
صفحة جزء
( مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب )

جاء في كتاب الذبائح من ( المدونة ) ما نصه " قلت : أفتحل لنا ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم ؟ قال : ما سمعت من مالك فيه شيئا ، ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح ، قلت : أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل ؟ قال : قال مالك : أكرهه ولا أحرمه ، وتأول مالك فيه : أو فسقا أهل لغير الله به ( 6 : 145 ) وكان يكرهه من غير أن يحرمه ، قلت : أرأيت ما ذبحت اليهود من الغنم فأصابوه فاسدا عندهم لا يستحلونه لأجل الرئة وما أشبهها التي يحرمونها في دينهم ، أيحل أكله للمسلمين ؟ قال : كان مالك مرة يجيزه فيما بلغني . انتهى " و ( المدونة ) عند المالكية ، أصل المذهب فهي كالأم عند الشافعية .

وجاء في كتاب أحكام القرآن للإمام عبد المنعم بن الفرس الخزرجي الأندلسي المتوفى سنة 599 هـ ما نصه :

وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم اتفق على أن ذبائحهم داخلة تحت عموم قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب فلا خلاف في أنها حلال لنا ، وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسات فيه ; كالخمر والخنزير فاختلف فيه ، فذهب الأكثرون إلى أن [ ص: 168 ] ذلك من أطعمتهم ، وذهب ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل لنا : ذبائحهم ، فأما ما خيف منهم استعمال النجاسة فيه ، فيجب اجتنابه ، وإذا قلنا : إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق ، فهل يحمل لفظه على عمومه أم لا ؟ فالأكثر إلى أن حمل لفظ الطعام على عمومه في كل ما ذبحوه ، مما أحل الله لهم أو حرم الله عليهم ، أو حرموه على أنفسهم ، وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم ، وذهب قوم إلى أن المراد من ذبائحهم ما أحل الله خاصة ، وأما ما حرم الله عليهم بأي وجه كان فلا يجوز لنا ، وهذا هو المشهور من مذهب ابن القاسم ، وذهب قوم إلى أن المراد بلفظ الطعام ذبائحهم جميعا ، إلا ما حرم الله عليهم خاصة ، لا ما حرموه على أنفسهم ، وإلى نحو هذا ذهب أشهب ، والذين قالوا : إن الله يجوز لنا أكل ما لا يجوز لهم أكله ، اختلفوا : هل ذلك على جهة المنع أو الكراهة ؟ وهذا الخلاف كله موجود في المذاهب ، واختلف أيضا فيما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم أو سموا عليه اسم المسيح ، هل هو داخل تحت الإباحة أم لا ؟ فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليله ، وأن أكله جائز ، وكرهه مالك رحمه الله ، وتأول قوله تعالى : أو فسقا أهل لغير الله به على ذلك .

" الذين أوتوا الكتاب " اختلف العلماء في الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، من هم ؟ وقد اختلف في المجوس والصابئة والسامرة ، هل هم ممن أوتي كتابا أم لا ؟ وعلى هذا يختلف في ذبائحهم ومناكحتهم . انتهى ملخصا .

وفي كتاب ( أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي ) في تفسير هذه الآية - أيضا - ما نصه : " هذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب : من الطيبات التي أباحها الله ، وهو الحلال المطلق ، وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات ، وتحرج إلى تطويل القول ، ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها ، هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما ؟ وهي المسألة الثامنة ، فقلت : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ، ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقا ، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا ، إلا ما كذبهم الله فيه ، ولقد قال علماؤنا : إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا ، فيحل لنا وطؤهن ، فكيف لا نأكل ذبائحهم ، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة . انتهى . وفيما قاله القاضي نوع من التقييد والتشديد ، إذ اعتبر في طعامهم ما يأكله أحبارهم ورهبانهم ، وهذا ما اعتمده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر ، في فتواه الترنسفالية .

وقد أفتى المهدي الوزاني من علماء فاس بمثل ما أفتى به مفتي مصر ، ولما علم بمشاغبة أهل الأهواء في فتوى مفتي الديار المصرية ، كتب رسالة في تأييد الفتوى بنصوص كتب المالكية المعتبرة ، نشرناها في آخر جزء من مجلد المنار السادس ، ومنها قوله :

[ ص: 169 ] " الدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ، ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل الكتاب للصنم ، فإنه حرام مع المنخنقة وما عطف عليها ، وقيدوه بما لم يأكلوه ، وإلا كان حلالا لنا .

قال الشيخ بناني على قول المختصر : " وذبح لصنم " ما نصه : الظاهر أن المراد بالصنم كل ما عبدوه من دون الله ، سبحانه وتعالى ، بحيث يشمل الصنم والصليب وغيرهما ، وأن هذا شرط في أكل ذبيحة الكتابي ، كما في التتائي والزرقاني ، وهو الذي ذكره أبو الحسن - رحمه الله - في شرح المدونة ، وصرح به ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ، ونصه : كره مالك - رحمه الله - ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم لأنه رآه مضاهيا لقوله عز وجل : أو فسقا أهل لغير الله به ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له ، وإنما رآها مضاهية له ; لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون ، قال : وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك . انتهى .

" وقال في سماع عبد الملك عن أشهب : وسألته عما ذبح للكنائس ، قال لا بأس بأكله . ابن رشد : " كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم ، ووجه قول أشهب أن ما ذبحوا لكنائسهم ، لما كانوا يأكلونه وجب أن تكون حلالا لنا ; لأن الله - تبارك وتعالى - يقول : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وإنما تأول قول الله عز وجل : أو فسقا أهل لغير الله به فيما ذبحوه لآلهتهم ، مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه ، فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا " . انتهى .

" فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل لأنهم لا يأكلونه ، فهو ليس طعامهم ، ولم يقصدوا بالذكاة إباحته ، وهذا هو المراد هنا ، وأما ما يأتي من الكراهة في ذبح الصليب ، فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم لكن سموا عليه اسم آلهتهم فهذا يؤكل بكره ; لأنه من طعامهم " هذا الغرض من كلام بناني ، وسلمه الرهوني بسكوته عنه ، فهذا شاهد لابن العربي قطعا ; لأنه علق جواز الأكل على كونه من طعامهم ، والمنع منه على ضد ذلك ، وأيضا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم ، كمتروك التذكية عمدا ; فإنها لا تؤكل بذبيحتنا وتؤكل بذبيحتهم ، حسبما تقدم . فإذا المدار على كونها من طعامهم لا غير ، والله أعلم " . انتهى المراد مما كتبه المفتي الوزاني .

وقد أطال علماء الأزهر في إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى ( الترنسفالية ) والقول في مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب ، وفصلوه في بضع فصول . الفصل السابع منها في بيان أن ما أفتى به ابن العربي ( أي من حل ما خنقه أهل الكتاب بقصد التذكية لأكله ) هو مذهب المالكية قاطبة ، والفصل الثامن في رد الرهوني برأيه عليه ، والتاسع في تفنيد كلام الرهوني وبيان بطلانه ، قالوا في أول الفصل السابع ما نصه :

[ ص: 170 ] اعلم أنه أقر ابن العربي على ما أفتى به الوزاني وصاحب المعيار وأحمد بابا وابن عبد السلام وابن عرفة وغيرهم من محققي المالكية كالزياتي ، وقال : وكفى به حجة ، وإن رده الرهوني بالأقيسة ، وما توهمه ابن عبد السلام من التناقض بين كلامي ابن العربي في أحكام القرآن من قوله : " ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس : ميتة حرام ، وقوله : أفتيت بأن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن ذكاة عندنا ; لأن الله أباح طعامهم مطلقا ، وكل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا ، إلا ما كذبهم الله فيه ، دفعه ابن عرفة بما حاصله أن ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته ، عندنا ذكاة ، وما لا يرونه مذكى لا يحل ، ويرجع إلى قصد تذكيته لتحليله وعدمه ، كما يعلم ذلك من التتائي على المختصر عند قول المصنف : " أو مجوسيا تنصر وذبح لنفسه . . . إلخ " ولم يفهم من عبارة أحد من هؤلاء المحققين ، أن ما أفتى به ابن العربي مذهب له وحده ، بل كل واحد وافقه على أنه مذهب المالكية ، وبيان ذلك أن مبنى مذهب المالكية جميعا ، العمل بعموم قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فكل ما كان من طعامهم فهو حل لنا ، سواء كان يحل لنا باعتبار شريعتنا أو لا ، فالمعتبر في حل طعامهم ما هو حلال لهم في شريعتهم ، ولا يعتبر ذلك بشريعتنا ، ويدل لذلك النصوص والتعاليل الآتية ، وهو ما جرى عليه مالك وأصحابه فيما ذبحوه للصليب أو لعيسى أو لكنائسهم .

قال الزياتي في شرح القصيدة : " الرابع : ما ذبح للصليب ، أو لعيسى ، أو لكنائسهم يكره أكله . بهرام عن ابن القاسم : " وما ذبحوه وسموا عليه باسم المسيح فهو بمنزلة ما ذبحوه لكنائسهم ، وكذلك ما ذبحوه للصليب ، وقال سحنون وابن لبابة : هو حرام ; لأنه مما أهل لغير الله به ، وذهب ابن وهب للجواز من غير كراهة " . انتهى .

" وفي القلشاني أن أشهب يرى - أيضا - الكراهة فيما ذبح للمسيح كابن القاسم ، وقال : يباح أكله ، وقد أباح الله ذبائحهم لنا وقد علم ما يفعلونه ، وذكر القلشاني - أيضا - فيما ذبحوه لكنائسهم ثلاثة أقوال : التحريم والكراهة والإباحة ، وأن مذهب المدونة الكراهة .

ونقل المواق عن مالك كراهة ما ذبح لجبريل ، عليه السلام . انتهى . وفي منح الجليل عن الرماصي : أجاز مالك - رضي الله عنه - في المدونة أكل ما ذكر عليه اسم المسيح مع الكراهة ، والإباحة لابن حارث عن رواية ابن القاسم مع رواية أشهب . وعنه أباح الله لنا ذبائحهم ، وعلم ما يفعلونه " . انتهى . وسيقول المصنف فيما يكره : وذبح لصليب أو عيسى ، وليس تحريم المذبوح للصنم لكونه ذكر عليه اسمه ، بل لكونه لم تقصد ذكاته ، وإلا فلا فرق بينه وبين الصليب ، قال التونسي : وقال ابن عطية ، في قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ( 6 : 121 ) .

[ ص: 171 ] ذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه ; من حيث لهم دين وشرع ، وقال قوم : نسخ من هذه الآية حل ذبائح أهل الكتاب ، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن ، وقال في قوله تعالى : وما أهل لغير الله به قال ابن عباس وغيره : فالمراد ما ذبح للأصنام والأوثان ، و ( أهل ) معناه : صيح ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب في استعماله حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم ، ثم قال : " والحاصل أن ذكر اسم غير الله لا يوجب التحريم عند مالك ، وفيه عن البناني ، وصرح ابن رشد في سماع ابن القاسم ، من كتاب الذبائح ، ما نصه : " كره مالك ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم ; لأنه رآه مضاهيا لقول الله : أو فسقا أهل لغير الله به ولم يحرمه ; إذ لم ير الآية متناولة له ، وإنما رآها مضاهية لقول الله أو فسقا أهل لغير الله به لأنها عنده إنما معناها فيما ذبحوه لآلهتهم ، مما لا يأكلونه . قال : وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك من كتاب الضحايا . وقال في سماع عبد الملك من أشهب : وسألته عما ذبح للكنائس ، قال : لا بأس بأكله " . ابن رشد : " كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم ، ووجه قول أشهب أن ما ذبحوه لكنائسهم ، لما كانوا يأكلونه وجب أن يكون حلالا ; لأن الله قال : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وإنما تأول قوله عز وجل : أو فسقا أهل لغير الله به فيما ذبحوه لآلهتهم ، مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه ; فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا " . انتهى . فتبين أن ذبح أهل الكتاب ، إن قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل ; لأنهم لا يأكلونه ، فهو ليس من طعامهم ولم يقصدوا بذكاته إباحته ، وهذا هو المراد هنا ، وأما ما يأتي من المكروه في : وذبح لصليب . . . إلخ . فأراد به ما ذبحوه لأنفسهم وسموا عليه باسم آلهتهم ، فهذا يؤكل بكره ; لأنه من طعامهم . انتهى .

وذكر العلامة التتائي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة ، جواز أكل ما ذبح للصنم . انتهى . وأنت لا يذهب عليك أن ما ذبح للصنم مما أهل به لغير الله ، وإنما جوزه هؤلاء الصحابة الأجلاء لكونه من طعام أهل الكتاب ، تأمله .

وقال العلامة التتائي ، عند قول المصنف : وذبح لصليب أو لعيسى : أي يكره أكل مذبوح لأجله ، محمد وابن حبيب : " هو مما أهل به لغير الله ، وما ترك مالك العزيمة بتحريمه ، فيما ظننا ، إلا للآية الأخرى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فأحل الله - تعالى - لنا طعامهم ، وهو يعلم ما يفعلونه ، وترك ذلك أفضل ، وقال محمد أيضا : كره مالك ما ذبحوه للكنائس أو لعيسى أو للصليب أو ما مضى من أحبارهم ، أو لجبريل أو لأعيادهم ، من غير تحريم " انتهى . ووجه الكراهة قصدهم به تعظيم شركهم مع قصد الذكاة . انتهى . منه بلفظه .

وفي بهرام : وذهب ابن وهب إلى جواز أكل ما ذبح للصليب أو غيره ، من غير كراهة ، نظرا إلى أنه من طعامهم . انتهى .

[ ص: 172 ] وقال في منح الجليل ، عند ذكر كراهة شحم اليهودي : عند البناني ثلاثة أقوال في شحم اليهود : الإجازة ، والكراهة ، والمنع ، وأنها ترجع إلى الأجازة والمنع ; لأن الكراهة من قبيل الإجازة ، والأصل في هذا اختلافهم في تأويل قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم هل المراد بذلك ذبائحهم ، أو ما يأكلون ؟ فمن ذهب إلى أن المراد به ذبائحهم أجاز أكل شحومهم لأنها من ذبائحهم ، ومحال أن تقع الذكاة على بعض الشاة دون بعض ، ومن قال : المراد ما يأكلون ، لم يجز أكل شحومهم لأنها محرمة عليهم في التوراة على ما أخبر به القرآن ، فليست مما يأكلون .

وفي منح الجليل - أيضا - بعد الكلام على التسمية ، ما نصه : وقال في البيان والتبيين : " ليست التسمية شرطا في صحة الذكاة ; لأن قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه معناه : لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها ; لأنها فسق ، ومعنى قوله : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ( 6 : 118 ) : كلوا مما قصدتم إلى ذكاته ، فكنى عن التذكية بالتسمية كما كنى عن رمي الجمار بذكر اسم الله - تعالى - حيث قال : واذكروا الله في أيام معلومات ( 2 : 203 ) انتهى المقصود منه .

وقال في كبير الخرشي : ودخل في قول المؤلف : " يناكح " أي يحل لنا وطء نسائه في الجملة ، المسلم والكتابي ، معاهدا أو حربيا ، حرا أو عبدا ، ذكرا أو أنثى ، ولا فرق بين الكتابي الآن ومن تقدم ، خلافا للطرطوشي في اختصاصه بمن تقدم ، فإن هؤلاء قد بدلوا ، فلا نأمن أن تكون الذكاة مما بدلوا ، ورد بأن ذلك لا يعلم إلا منهم ، فهم مصدقون فيه . انتهى . ومثله في التتائي بلا فرق .

وقال في شرح اللمع عند قول المصنف : وأما من يذكي فمن اجتمعت فيه أربعة شروط : أن يكون مسلما أو كتابيا . . . إلخ . واعلم أن المؤلف قد أطلق الكلام على صحة ذكاة الكتابي ، ولا بد من التفصيل في ذلك ليصير كلامه موافقا للمشهور من المذهب ، وتلخيص القول في ذلك أن الكافر إن كان غير كتابي لم تصح ذكاته ، وإن كان كتابيا كاليهودي والنصراني ، سواء كان بالغا أو مميزا ، ذكرا أو أنثى ، ذميا كان أو حربيا ، فإن كان ما ذكاه مما يستحل أكله فذكاته له صحيحة ويجوز لنا الأكل منها ، وإن كان مالك قد كره الشراء من ذبائحهم ، والأصل في ذلك أن الله - تعالى - قد أباح لنا أكل طعامهم ، ومن جملة طعامهم ما يذكونه ، وإن كان ما ذكاه مما لا يستحله ، بل مما يقول : إنه حرام عليه : فإن ثبت تحريمه عليه بنص شريعتنا كذي الظفر في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ( 6 : 146 ) فالمشهور عدم جواز أكله ، وقيل : يجوز ، وقيل : يكره وإن لم يثبت تحريمه عليهم بشرعنا ، بل لم يعرف ذلك إلا من قولهم ; كالتي يسمونها بالطريقة - بالطاء المهملة - ففي جواز [ ص: 173 ] أكلنا منه وكراهته قولان ، وهما لمالك في المدونة .

قال اللخمي : " وثبت على الكراهة ، ولم يحرمه ، واقتصر الشيخ خليل في مختصره على القول بالكراهة ، ووجهه ابن بشير باحتمال صدق قولهم ، وهذا كله إذا كان الكتابي لا يستبيح أكل الميتة ، وأما إن كان ممن يستحل أكلها فقال ابن بشير : فإن غاب الكتابي على ذبيحته ، فإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كبعض النصارى ، أو شككنا في ذلك لم نأكل ما غابوا عليه ، وإن علمنا أنهم يذكون أكلناه " . انتهى .

وأما ما يذبحه الكتابي لعيده أو للصليب أو لعيسى أو للكنيسة أو لجبريل أو نحو ذلك - فقد كرهه مالك مخافة أن يكون داخلا تحت قوله تعالى : وما أهل لغير الله به ولم يحرمه لعموم قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وهذا من طعامهم .

قال ابن يونس : واستخفه غير واحد من الصحابة والتابعين وقالوا : قد أحل لنا ذلك وهو عالم بما يفعلونه . انتهى .

وأما ما ذبحوه للأصنام فلا يجوز أكله ، قال ابن عبد السلام : باتفاق ; لأنه مما أهل به لغير الله .

قال اللخمي في تبصرته ، فيما ذبحه أهل الكتاب لعيدهم وكنائسهم وصلبانهم وما أشبه ذلك : " الصحيح أنه حلال ، والمراد بما أهل لغير الله به : ما ذبح على النصب والأصنام ، وهي ذبائح المشركين . قال أصبغ في ثمانية أبي زيد : وما ذبح على النصب هي الأصنام التي كانوا يعبدونها في الجاهلية ، قال : وأهل الكتاب ليسوا أصحاب أصنام .

وفي البخاري قال زيد بن عمرو بن نفيل : إنا لا نأكل مما تذبحون لأنصابكم ; يعني الأصنام ، وأما ما ذبحه أهل الكتاب فلا يراعى ذلك فيهم ، وقد جعل الله - سبحانه - لهم حرمة ، فأجاز مناكحتهم وذبائحهم ; لتعلقهم بشيء من الحق ، وهو الكتاب الذي أنزل عليهم ، وإن كانوا كافرين ، ولو كان يحرم ما ذبح باسم المسيح لم يجز أن يؤكل شيء من ذبائحهم ، إلا أن يسأل هل سمى عليه المسيح أو ذبح للكنيسة ؟ بل لا يجوز ، وإن أخبر أنه لم يسم المسيح ; لأنه غير صادق ، وإذا لم يجب ذلك حلت ذبائحهم كيف كانت . انتهى .

فانظر كيف تضافرت كل هذه النصوص كباقي نصوص جميع المالكية ، على إناطة الحل والحرمة بكونه حلالا عندهم - أي يأكلونه - وعدمه ، وهذا بعينه هو ما قصد إليه ابن العربي والحفار ، وقال : أهل المذهب كلهم يقولون ويفتون بحل طعام أهل الكتاب ، ومن جهة أخرى تعلم أن الذبح للصليب لم يكن من الشريعة المسيحية الحقة ; لأنه حادث بعدها ، إذ منشؤه حادثة الصلب المشهورة ، فكل هذا يفيد أن المعتبر عند المالكية ، ما هو حلال عند أهل الكتاب في شريعتهم التي هم عليها ، ومنه يعلم - أيضا - ما هو المراد من الميتة في قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة وأنها التي لم يقصد ذكاتها ، كما يعلم أنه يجب تقييد المنخنقة وما معها بما لم تقصد ذكاته ، ويكون هذا في المنخنقة وما معها ، بدليل : إلا ما ذكيتم كما سبق ، ومنه يتضح أن المراد بالميتة في قولهم : إن كان الكتابي يأكل الميتة فلا تأكل ما غاب . . . إلخ .

[ ص: 174 ] أنها ما لم تقصد ذكاتها ; لأن القصد إلى الذكاة لا بد منه ، من مسلم أو كتابي ، حتى لو قطع رقبة الحيوان بقصد تجريب السيف أو اللعب ، لا يحل كما تقدم ، ومنه يعلم أن الميتة المذكورة بالنسبة للكتابي هي الميتة عنده ، وهي التي لم يقصد ذكاتها ، لا الميتة عندنا ، ويتبين منه - أيضا - أن الشروط المذكورة للفقهاء في الذبائح والذكاة إنما هي بيان ما يلزم في الإسلام بالنسبة للمسلم لا لغيره . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية