صفحة جزء
( اهدنا الصراط المستقيم

ذكر الأستاذ الإمام أولا ما قالوه في معنى الهداية لغة من أنها : الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب ، ثم بين أنواعها ومراتبها فقال ما مثاله : منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته .

( أولاها ) : هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري . وتكون للأطفال منذ ولادتهم ، فإن الطفل بعد ما يولد يشعر بألم الحاجة إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته ، وعندما يصل الثدي إلى فيه يلهم التقامه وامتصاصه .

( الثانية ) : هداية الحواس والمشاعر ، وهي متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية ، ويشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم ، بل هو فيهما أكمل من الإنسان ‌ ، فإن حواس الحيوان وإلهامه يكملان له بعد ولادته بقليل ، بخلاف الإنسان فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير ، ألا تراه عقب الولادة لا تظهر عليه علامات إدراك الأصوات والمرئيات ، ثم بعد مدة يبصر ، ولكنه لقصر نظره يجهل تحديد المسافات ، فيحسب البعيد قريبا فيمد يديه إليه ليتناوله وإن كان قمر السماء ولا يزال يغلط حسه حتى في طور الكمال :

( الهداية الثالثة ) : العقل ، خلق الله الإنسان ليعيش مجتمعا ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية كما أعطي النحل والنمل ، فإن الله قد منحها [ ص: 53 ] من الإلهام ما يكفيها ، لأن تعيش مجتمعة يؤدي كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها ، ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد ، وبذلك قامت حياة أنواعها كما هو مشاهد .

أما الإنسان فلم يكن من خاصة نوعه أن يتوفر له مثل ذلك الإلهام ، فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام ، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه ، وذلك أن البصر يرى الكبير على البعد صغيرا ، ويرى العود المستقيم في الماء معوجا ، والصفراوي يذوق الحلو مرا . والعقل هو الذي يحكم بفساد مثل هذا الإدراك .

( الهداية الرابعة ) : الدين ، يغلط العقل في إدراكه كما تغلط الحواس ، وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية النوعية ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال ، فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة . فإذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل ، واسترقت الحظوظ والأهواء العقل فصار يستنبط لها ضروب الحيل ، فكيف يتسنى للإنسان مع ذلك أن يعيش سعيدا ؟ وهذه الحظوظ والأهواء ليس لها حد يقف الإنسان عنده وما هو بعائش وحده ، وكثيرا ما تتطاول به إلى ما في يد غيره ، فهي لهذا تقتضي أن يعدو بعض أفراده على بعض ، فيتنازعون ويتدافعون ، ويتجادلون ويتجالدون ، ويتواثبون ويتناهبون حتى يفني بعضهم بعضا ، ولا تغني عنهم تلك الهدايات شيئا فاحتاجوا إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم ، إذا هي غلبت على عقولهم ، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها ويكفوا أيديهم عما وراءها . ثم إن مما أودع في غرائز الإنسان الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الأكوان ينسب إليها كل ما لا يعرف له سببا . لأنها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده ، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة ، فهل يستطيع أن يصل بتلك الهدايات الثلاث إلى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه ، ووهبه هذه الهدايات وغيرها ، وما فيه سعادته في تلك الحياة الثانية ؟ كلا إنه في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة - الدين - وقد منحه الله تعالى إياها .

أشار القرآن إلى أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان في آيات كثيرة منها قوله تعالى : ( وهديناه النجدين 90 : 10 ) أي طريقي السعادة والشقاوة والخير والشر .

قال الأستاذ الإمام : وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة ، وهداية العقل وهداية الدين ، ومنها قوله تعالى : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) ( 41 : 17 ) أي دللناهم على طريقي الخير والشر ، فسلكوا سبل الشر المعبر عنه بالعمى . وذكر غير هاتين الآيتين مما في معناهما ثم قال :

بقي معنا هداية أخرى وهي المعبر عنها بقوله تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 6 : 90 ) فليس المراد من هذه الهداية ما سبق ذكره ، فالهداية في الآيات السابقة [ ص: 54 ] بمعنى الدلالة ، وهي بمنزلة إيقاف الإنسان على رأس الطريقين : المهلك ، والمنجي ، مع بيان ما يؤدي إليه كل منهما ، وهي مما تفضل الله به على جميع أفراد البشر . وأما هذه الهداية فهي أخص من تلك ، والمراد بها إعانتهم وتوفيقهم للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة ، وهي لم تكن ممنوحة لكل أحد كالحواس والعقل وشرع الدين .

ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل على ما قدمنا ، كان محتاجا إلى المعونة الخاصة ، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله ( اهدنا الصراط المستقيم ) فمعنى " ( اهدنا الصراط المستقيم " دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك تحفظنا بها من الضلال والخطأ ، وما كان هذا أول دعاء علمنا الله إياه ، إلا لأن حاجتنا إليه أشد من حاجتنا إلى كل شيء سواه .

ثم بين معنى الصراط ( وهو الطريق ) واشتقاقه ، وقراءة الصراط بالسين المهملة واشتقاقها على نحو ما في كتب اللغة والتفسير ، ومعنى المستقيم : وهو ضد المعوج ، وقال : ليس المراد بمقابل المستقيم المعوج ذا التموج والتعاريج ، بل المراد : كل ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهي سالكه إليها . والمستقيم في عرف الهندسة : أقرب موصل بين طرفين ، وهذا المعنى لازم للمعنى اللغوي كما هو ظاهر بالبداهة . وإنما قلنا : إن المراد بمقابل المستقيم كل ما فيه انحراف ؛ لأن كل من يميل وينحرف عن الجادة يكون أضل عن الغاية ممن يسير عليها في خط ذي تعاريج ؛ لأن هذا الأخير قد يصل إلى الغاية بعد زمن طويل . ولكن الأول لا يصل إليها أبدا . بل يزداد عنها بعدا كلما أوغل في السير وانهمك فيه .

وقد قالوا : إن المراد بالصراط المستقيم ، الدين ، أو الحق ، أو العدل ، أو الحدود .

ونحن نقول : إنه جملة ما يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم .

لم سمي الموصل إلى السعادة من ذلك صراطا وطريقا ؟ خذ الحق مثلا وهو العلم الصحيح بالله وبالنبوة وبأحوال الكون والناس ، ترى معنى الصراط فيه واضحا ؛ لأن السبيل أو الصراط ما أسلكه وأسير فيه لبلوغ الغاية التي أقصدها ، كذلك الحق الذي يبين لي الواقع الثابت في العقيدة الصحيحة هو كالجادة بين السبل المتفرقة المضلة ، فالطريق الواضح للحس ، يشبه الحق للعقل والنفس ، سير حسي ، وسير معنوي ، كذلك إذا اعتبرت [ ص: 55 ] هذا المعنى في الحدود والأحكام تجده واضحا - قسمت أحكام الأعمال إلى : واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومحرم ومكروه ، فكان هذا مريحا لنا من تمييز الخير من الشر بأنفسنا واجتهادنا ، فبيان الأحكام بالهداية الكبرى وهي الدين كالطريق الواضح يسلك بالعمل . ومع هذا تجد الشهوات تتلاعب بالأحكام وترجعها إلى أهوائها كما يصرف السفهاء عقولهم وحواسهم فيما يرديهم . وهذا التلاعب بالدين إنما يصدر من علمائه . وضرب الأستاذ الإمام لذلك مثلا أحد الشيوخ المتفقهين ، سرق كتابا من وقف أحد الأروقة في الأزهر مستحلا له بحجة أن قصد الواقف الانتفاع به ، وهو يحصل بوجود الكتاب عنده ، وأنه قد يفوت النفع ببقائه في الرواق حيث وضعه الواقف ، إذ لا يوجد فيه من يفهمه مثله بزعمه ! ! واستحلال المحرمات بمثل هذا التأويل ليس بقليل ، ولذلك كان الإنسان محتاجا أشد الاحتياج إلى العناية الإلهية الخاصة لأجل الاستقامة والسير في تلك الهدايات الأربع سيرا مستقيما يوصل إلى السعادة . لهذا نبهنا الله جل شأنه أن نلجأ إليه ، ونسأله الهداية ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا ، وأن تكون استعانتنا في ذلك به لا بسواه ، بعد أن نبذل ما نستطيع من الفكر والجهاد في معرفة ما أنزل إلينا من الشريعة والأحكام وأخذ أنفسنا بما نعلم من ذلك . وهذا أفضل ما نطلب فيه المعونة منه جل شأنه لاشتماله على خيري الدنيا والآخرة . فهو بهذه الآية يعلمنا كيف نستعين بعد أن علمنا اختصاصه بالاستعانة في قوله : " وإياك نستعين " .

التالي السابق


الخدمات العلمية