(
النية للوضوء ككل عبادة ) روي عن أئمة
آل البيت ، عليهم السلام ، وعن أشهر علماء الأمصار ، اشتراط النية في الوضوء ; فهو مذهب
ربيعة ومالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأحمد والليث nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق بن راهويه ، واستدلوا على فرضيتها بحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918639إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه رواه الجماعة كلهم من حديث
عمر ، واستدل عليه بعضهم بآية الوضوء نفسها ; لأن ترتيب أعمال الوضوء على القيام إلى الصلاة يدل على أن
[ ص: 203 ] هذه الأعمال لأجل الصلاة ، وذلك لا يكون إلا بالنية ، وقد عرف الشافعية النية بأنها قصد الشيء مقترنا بفعله ، واشترطوا لتحققها وصحتها عدة شروط ، وقال
البيضاوي : " النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع ، أو دفع ضر حالا أو مآلا ، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ; لابتغاء رضاء الله ، وامتثال حكمه ، ولهم في تعريفها أقوال أخرى ، وهذا أحسن ما رأيناه لهم فيها ; لأنه جامع للمعنى الطبعي ، والمعنى الشرعي .
ذلك أن
النية نيتان : نية شرعية - وسيأتي معناها - ونية طبيعية ; وهي القصد الذي يتميز به فعل المختار الشاعر بفعله عن فعل المضطر والذاهل الذي تشبه حركته حركة النائم ، وهذا المعنى للنية ضروري في تحقق الفعل الاختياري ; فلا معنى للقول بوجوبه وافتراضه ، وقد يظهر القول بعده شرطا ليخرج به ما يقع للمحدث من غسل أطرافه لنحو الابتراد ، وناهيك إذا غسلها بغير الترتيب المأثور ، فإذا أراد الصلاة بعد ذلك يجب عليه الوضوء لها ; لأن عمله السابق لم يكن امتثالا لما أمر الله به ، وجعله شرطا لها ، وليس هذا هو المراد من النية بالحديث ؛ وإنما المراد المعنى الثاني للنية ، وهو الغرض الباعث على الفعل الاختياري ، وهو ابتغاء مرضاة الله تعالى ، باتباع ما شرعه والإتيان به على الوجه الذي شرعه لأجله ، وهذا هو الإخلاص ، أو يلزم منه الإخلاص ; أي جعل العبادة خالصة من شوائب الرياء والأهواء ، لا غرض منها إلا ما ذكر من التحقق بها على وجهها ، وابتغاء مرضاة الله تعالى فيها . كل من يهاجر يقصد الهجرة قصدا مقترنا بالفعل ، وكل من يتوضأ يقصد الوضوء عند الشروع فيه ، وكل من يصلي يقصد الإتيان بأعمال الصلاة عند الشروع فيها ، وكل من يحرم بالحج يقصد الإتيان بمناسكه ، وما كل من يتلبس بهذه العبادات يقصد بها مرضاة الله تعالى بتحصيل الغرض منها ; كنصر الله ورسوله ، وإقامة دينه بالهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكالتمكن من إقامة الدين ، والاهتداء به بهجرة المسلم في هذا الزمان ، من مكان لا حرية له في دينه فيه ، إلى غيره ، وقل مثل هذا في الوضوء وحكمته ، التي شرع لأجلها ، والصلاة وحكمتها ، والحج وحكمته ، فكما يهاجر بعض الناس لأجل الدين في الظاهر ، ولأجل التجارة ، أو الزواج ، أو غير ذلك من أغراض الدنيا في الباطن ، كذلك يسافر بعض الناس إلى الحج ; لأجل التجارة والكسب ، أو غير ذلك من أغراض الدنيا فقط ، ومنها الرياء والسمعة ، وإذا كان في الناس من يصلي رياء وسمعة ، ومنهم من يصلي لموافقة من يعيش معهم في عاداتهم ، كما يوافقهم في الزي والطعام والشراب ، ففيهم من يصلي ابتغاء مرضاة الله والاستعانة بمناجاته وذكره على تهذيب نفسه ونهيها عن الفحشاء والمنكر ، وكل منهم ينوي النية الطبيعية ؛ وهي قصد أعمال الصلاة عند فعلها ; إذ لا تحصل هذه الصلاة إلا بهذا القصد .
[ ص: 204 ] فظهر من هذا أن النية الطبيعية - التي هي قصد الشيء عند فعله - ضرورية ، لا معنى لفرضيتها وعدها من أركان الصلاة ، وأن النية الواجبة في جميع الأعمال المشار إليها في الحديث ، هي النية بالمعنى الآخر الذي شرحناه ، وبه يتحقق الإخلاص الذي هو روح العبادة ، وينتفي الرياء الذي هو شعبة من الشرك ، ومن لا حظ له من هذه النية لا حظ له من عبادة الله تعالى ، وما يأتيه من صورة العبادة لا يقبله الله منه في الآخرة ; لأنه لا تصلح به حاله ، ولا تتزكى به نفسه في الدنيا ، وإن أنكر هذا الجسمانيون الجامدون الذين جعلوا الدين عبارة عن حركات لسانية وبدنية ، لا علاقة لها بالقلب ، ولا فائدة لها في تزكية النفس ، فتراهم من أشد خلق الله تنطعا في ظواهر العبادة ، وأشدهم انسلاخا من روحها وسرها وحكمتها ، وجعلوها حرجا وعسرا ، خلافا لما قاله الله تعالى ، يتنطعون في الطهارة ، وقد علا أجسادهم وثيابهم الوسخ والسناخة ، ويتنطعون في تجويد القراءة وحركات الأعضاء في الصلوات ، ولا ينتهون عن الفواحش والمنكرات .
ومن العجائب أنهم جهلوا حقيقة النية المشروعة التي هي من أعمال القلب المحضة ، وابتدعوا كلمات ، يسمونها النية اللفظية ، لم يأذن بها الله ولا رسوله ، ولا عرفت في سنة ، ولا عن أحد من السلف ، وقد غلوا في التنطع بها ، حتى إنهم يؤذون المصلين بأصواتهم ، ومنهم الموسوسون الذين يكررون هذه الأقوال ويرفعون بها أصواتهم : نويت فرائض الوضوء مع سننه ، نويت فرائض الوضوء مع سننه . . . إلخ ! ويفعلون مثل هذا في نية الصلاة عند تكبيرة الإحرام ، وأكثر هؤلاء الموسوسين من الشافعية الذين دقق بعض فقهائهم في فلسفة نيتهم ; فاشترط أن يتصور المصلي جميع أركان الصلاة القولية والعملية عند البدء بها ، وذلك بين النطق بـ ( همزة ) لفظ الجلالة المفتوحة و ( راء ) لفظ ( أكبر ) الساكنة من كلمتي ( الله أكبر ) ليتحقق معنى قصد الشيء مقترنا بفعله ، والمعلوم من الدين بالضرورة أن المطلوب عند كل ذكر ، تصور معناه ، فإذا لا ينبغي للمصلي أن يتصور عند التكبير إلا معنى التكبير ، والأمر لله العلي الكبير .