( حكمة شرع الوضوء والغسل ) ولما بين فرض الوضوء وفرض الغسل ، وما يحل محلهما عند تعذرهما أو تعسرهما ؛ تذكيرا بهما ومحافظة على معنى التعبد فيهما ، وهو التيمم - بين حكمة شرعهما لنا ، مبتدئا ببيان قاعدة من أعظم قواعد هذه الشريعة السمحة ، فقال : (
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية ولا في غيرها أيضا حرجا ما ; أي أدنى ضيق وأقل مشقة ; لأنه تعالى غني عنكم ، رءوف رحيم بكم ، فهو لا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم (
ولكن يريد ليطهركم ) من القذر والأذى ، ومن الرذائل والمنكرات ، والعقائد الفاسدة ; فتكونوا أنظف الناس أبدانا ، وأزكاهم نفوسا ، وأصحهم أجساما ، وأرقاهم أرواحا (
وليتم نعمته عليكم ) بالجمع بين طهارة الأرواح وتزكيتها ، وطهارة الأجساد وصحتها ، فإنما الإنسان روح وجسد ، لا تكمل إنسانيته إلا بكمالهما معا ، فالصلاة تطهر الروح ، وتزكي النفس ; لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتربي في المصلي ملكة مراقبة الله تعالى وخشيته لدى الإساءة ، وحبه والرجاء فيه عند الإحسان ، وتذكره دائما بكماله المطلق ، فتوجه همته دائما إلى طلب الكمال ( راجع تفسير : (
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) . ( 2 : 238 ) في الجزء الثاني من التفسير ) . والطهارة التي جعلها الله تعالى شرطا للدخول في الصلاة ومقدمة لها ، تطهر البدن وتنشطه ; فيسهل بذلك العمل على العامل من عبادة وغير عبادة ، فما أعظم نعمة الله تعالى على الناس بهذا الدين القويم ، وما أجدر من هداه الله إليه بدوام الشكر له عليه . ولذلك ختم الآية بقوله : (
لعلكم تشكرون ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكره ; فتكونوا أهلا له ، ويكون مرجوا منكم لتحقق أسبابه ، ودوام المذكرات به ، فتعنوا بالطهارة الحسية والمعنوية ، وتقوموا بشكر النعم الظاهرة والباطنة .
وقد استعمل لفظ " الطهارة " في بعض الآيات بمعنى الطهارة البدنية الحسية ، وفي بعضها بمعنى الطهارة النفسية المعنوية ، وفي بعض آخر بالمعنيين جميعا بدلالة القرينة ، فمن
[ ص: 215 ] الأول قوله تعالى : (
وثيابك فطهر ) ( 74 : 4 ) وقوله في النساء عند الحيض : (
ولا تقربوهن حتى يطهرن ) أي من الدم (
فإذا تطهرن ) أي اغتسلن بعد انقطاع الدم (
فأتوهن من حيث أمركم الله ) وختم الآية بقوله : (
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ( 2 : 222 ) والتطهر فيه شامل للطهارتين الحسية والمعنوية ; أي المتطهرين من الأقذار والأحداث ، ومن الفواحش والمنكرات ; فالسياق قرينة على المعنى الأول ، وذكر التوبة قرينة على المعنى الثاني ، ويشير إليه السياق من حيث إن من أتى الحائض قبل أن تطهر وتتطهر يجب عليه التوبة . ومن المعنى الثاني خاصة قوله عز وجل : (
أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) ( 5 : 41 ) وقوله تعالى حكاية عن قوم لوط : (
أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) ( 27 : 56 ) أي من الفاحشة ، ومنه قوله تعالى : (
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) ( 2 : 125 ) أي طهراه من الوثنية وشعائرها ومظاهرها ; كالأصنام ، والتماثيل ، والصور . ومن الآيات التي استعملت الطهارة فيها بمعنييها قوله تعالى : (
لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ( 9 : 108 ) فإذا تأملت هذه الآيات ، وعرفت استعمال القرآن لكلمة الطهارة في معنييها ترجح عندك أن الآية التي نفسرها من هذا القبيل ، فذكر الطهارة بعد الأمر بالوضوء والغسل قرينة المعنى الأول . والسياق العام وذكر إتمام النعمة بعد الطهارة التي ذكرت بغير متعلق ، قرينة المعنى الثاني مضموما إلى الأول .
أما تفصيل القول في حكمة الوضوء والغسل ، ويتضمن حكمة ما يجب من طهارة كل البدن والثياب من القذر ، فيدخل في مسألتين نبين فيهما فوائدهما الذاتية ، وفوائدهما الدينية .