الفوائد الذاتية للطهارة الحسية : أما فوائدهما الذاتية فثلاث ( الفائدة الأولى ) : ما أشرنا إليه آنفا من كون غسل البدن كله وغسل أطرافه ، يفيد صاحبه نشاطا وهمة ، ويزيل ما يعرض لجسده من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث ، أو بغير ذلك من الأعمال التي تنتهي بمثل تأثيره ، فيكون جديرا بأن يقيم الصلاة على وجهها ، ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة الله تعالى ، ويعسر هذا في حال الفتور والكسل ، والاسترخاء والملل ، أو الحر والبرد ، ونزيد ذلك بيانا فنقول : من المعروف عقلا وتجربة أن الطهارة دواء لهذه العوارض ; فهي بمقتضى سنة رد الفعل تفيد المقرور حرارة ، والمحرور ابترادا ، وتزيل الفتور الذي يعقب خروج الفضلات من البدن ; كالبول والغائط اللذين يضر احتباسهما ; كاحتباس الريح في البطن ، فالحاقن من البول ، والحاقب من الغائط ، والحازق من الريح ; كالمريض ، وكل منهم تكره صلاته كراهة شديدة ،
[ ص: 216 ] فمتى خرجت هذه الفضلات الضار احتباسها يشعر الإنسان كأنه كان يحمل حملا ثقيلا وألقاه ، ويشعر عقب ذلك بفتور واسترخاء ، فإذا توضأ زال ذلك ، ونشط وانتعش ، وكذلك من مس فرجه أو قبل امرأته أو مس جسدها بغير حائل يحصل له لذة جسدية في بعض الأحيان ، وحدوث اللذة عبارة عن تنبه ، أو تهيج في العصب ، يعقبه فتور ما بمقتضى سنة رد الفعل ، والوضوء يزيل هذا الفتور الذي يصرف النفس باللذة الجسدية عن اللذة الروحية والعقلية ; ولهذا اشترط بعض من قال بنقض الوضوء بمس ما ذكر أن يكون بلذة ، واكتفى بعضهم بكونه مظنة اللذة .
أما إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسدية غايتها بالوقاع أو الإنزال ، فيكون ذلك منتهى تهيج المجموع العصبي الذي يعقبه - بسنة رد الفعل - أشد الفتور والاسترخاء والكسل ، وضعف الاستعداد للذة الروحية بمناجاة الله وذكره ، ولا يزيل ذلك إلا
غسل البدن كله ; فلذلك وجب الغسل عقب ذلك . واشترط بعضهم في الإنزال اللذة ، ويحصل نحو هذا الضعف والفتور للمرأة بسببين آخرين ، وهما الحيض والنفاس ; فشرع لها الغسل عقبهما كما شرع لها الغسل من الجنابة كالرجل ، والظاهر أن سبب ما ورد في السنة من الأمر بالوضوء من أكل ما مسته النار كله هو ما فيه من اللذة ، وخص منها لحم الإبل لأنهم كانوا يستطيبونه ، أو لأنه يستثقل على المعدة ، فيضعف النشاط عقب أكله ، ثم خفف النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمة في ذلك ، واكتفى بالحدث الذي هو غاية الأكل عن المبدأ كما هو مذهب الجماهير ،
ومن زال عقله بمرض عصبي أو غيره ; كالإغماء ، والسكر ، وتناول بعض المخدرات والأدوية ، لا ينشط بعد إفاقته إلا إذا أمس الماء بدنه بوضوء أو غسل ، وإنني أرى هذا الدخان - التبغ والتنباك - الذي فتن به الناس في هذه الأزمنة ، لو كان في زمن الشارع لأوجب الوضوء منه إن لم يحرمه تحريما . ويقرب من الإغماء ونحوه النوم . ومهما اختلف الفقهاء في نقض الوضوء به ؛ هل هو لذاته أو لكونه مظنة لشيء آخر ؟ وهل ينقض مطلقا ، أو يشترط فيه الكثرة ، أو عدم تمكن المقعدة من الأرض ؟ فالجماهير على وجوب الوضوء عقب النوم المعتاد .
واعلم أن هذه الفائدة تحصل بالماء دون غيره من المائعات حتى ما يزيل الوسخ أكثر من الماء كالكحول ، فلا تحصل عبادة الغسل بغيره لإنعاشه وكونه أصل الأحياء كلها ، وهذا الذي تعبر عنه الصوفية بتقوية الروحانية للعبادة ، وهو ما يدل عليه قوله تعالى : (
فلم تجدوا ماء فتيمموا ) الآية ، ولا ينافي روحانية المائية المادة العطرة التي تقطر من الورد وغيره ، بل تزيد المتطهر به طهارة وطيبا وروحانية ، ومادة الماء معروفة .