قال تعالى في تبكيت هؤلاء الناس ورد زعمهم : (
قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ) أي قل ، أيها الرسول ، لهؤلاء
النصارى المتجرئين على مقام الألوهية بهذا الزعم الباطل : من يملك من أمر الله وإرادته شيئا يدفع به الهلاك والإعدام عن
المسيح وأمه ، وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد عز وجل أن يهلكهم ويبيدهم ؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتجهيل ; أي إن
المسيح وأمه من المخلوقات التى هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها كسائر أهل الأرض ، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا ، لا يوجد أحد يستطيع أن يرد إرادته ; لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئا يستطيع به أن يصرفه عن عمل
[ ص: 257 ] يريده أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه . تقول العرب : ملك فلان على فلان أمره : إذا استولى عليه ، فصار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئا إلا به أو بإذنه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13147ابن دريد في وصف الخمرة التى لم يكسر المزج حدتها ، ولم تبطل النار تأثيرها : لم يملك الماء عليها أمرها ولم يدنسها الضرام المحتضى وقوله تعالى : (
فمن يملك من الله شيئا ) أبلغ من مثل هذا القول ; لأنه نفى أن يملك أحد بعض أمره تعالى فضلا عن ملك أمره كله ، فصار المعنى : أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يرد أمره ، أو يحوله عن إرادته بوجه ما ، ولو الدعاء والشفاعة ; إذ لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه لمن ارتضاه ، فالأمر في ذلك كله له وحده عز وجل ، ويدخل في عموم ذلك
المسيح نفسه وغيره من الأنبياء ، وكذا الملائكة عليهم السلام ، فإذا كان
المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الهلاك أو عن والدته ، كما أنه لا يستطيع غيره أن يدفعه عنه إذا أراد الله تعالى إنزاله به ؛ فكيف يكون هو الله الذى بيده ملكوت كل شيء ؟
ومن غريب تهافت هؤلاء الناس أنهم قالوا : إن شر نوع من أنواع الإهلاك ، وهو الصلب نزل
بالمسيح - الذي هو الكلمة والله هو الكلمة بزعمهم - ولم يستطع أن يدفعه عن نفسه ، وأنه استغاث بربه خائفا وجلا ضارعا خاضعا ; ليصرف عنه ذلك الكأس ، فلم يجبه إلى ما طلب ! وهم يكابرون أنفسهم في دفع هذا التهافت بمثل قولهم : إنه كان له طبيعتان ومشيئتان ; ثنتان منهما إلهيتان ، وثنتان بشريتان ، وليت شعري ، إذا كان هذا ممكنا ؛ فهل يمكن معه أن يجهل
المسيح بطبيعته البشرية طبيعته الإلهية ، فيعترض عليها بمثل قولهم عنه في إنجيل متى ( 37 : 46 إلهي إلهي ، لماذا تركتني ) ويستنجدها غير عالم بما يمكن وما لا يمكن لها بمثل ما قالوه عنه في إنجيل متى ( 26 : 39 ثم تقدم قليلا ، وخر على وجهه ، وكان يصلي قائلا : يا أبتاه ، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ) إلى أن قال : ( 42 فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا : إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس ، إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ) وهذا أعظم حجة عليهم مصدقة لحجة القرآن ، فإن مشيئة الله لا يردها شيء .
ثم إن الطبيعة البشرية هي التي خاطبت البشر ، فإذا كان هذا شأنها ; لا يقبل قولها ، ولا يوثق بتعليمها ؛ فكيف تجعل مع الطبيعة الأخرى شيئا واحدا يسمى ربا وإلها ويعبد ؟ والناس ما رأوا إلا الطبيعة البشرية ، ولا عرفوا غيرها ، ولا سمعوا إلا كلامها ، ولا رأوا إلا أفعالها ، والنكتة في عطف (
ومن في الأرض جميعا ) على
المسيح وأمه التذكير بأنهما من جنس البشر الذين في الأرض ، وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر ، وأناجيلهم تعترف بأن
المسيح كان كغيره في الشئون البشرية ، كما سيأتي في تفسير (
ما المسيح ابن مريم إلا رسول 5 : 75 ) الآية .