[ ص: 258 ] (
ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ) الظاهر أن هذه الجملة حالية ; أي فمن يملك من الله شيئا إن أراد إهلاك
المسيح وأمه ، وأهل الأرض قاطبة ، والحال أنه هو صاحب الملك المطلق ، والتصرف الاستقلالي الكامل في السماوات والأرض وما بينهما ; أي ما بين هذين العالمين ; العلوي والسفلي بالنسبة إليكم .
وهذا الملك والتصرف مما تعترف به
النصارى ، ولكنهم زعموا أن صاحب هذا الملك العظيم والتصرف المطلق والكمال الأعلى قد عرض له بعد خلق
آدم - الذي ندم وتأسف من كل قلبه أنه خلقه - أمر عظيم ; وهو أن
آدم عصاه ، فاقتضى عدله أن يعذبه ، واقتضت رحمته ألا يعذبه ، فوقع التناقض والتعارض بين مقتضى صفاته ، فلم يجد لذلك مخرجا يجمع به بين مقتضى العدل والرحمة ، إلا أن يحل في بطن امرأة من ذرية آدم ويتكون جنينا فيه ; فتلده إنسانا كاملا وإلها كاملا ، ثم يعرض نفسه لشر قتلة ، لعن صاحبها على لسان رسله ، وهي الصلب ; فداء
لآدم وذريته ، وجمعا بين عدله بتعذيب واحد منهم هو وحده البريء من الذنب ، ورحمة الآخرين إن آمنوا بهذه العقيدة ولو بغير عقل ، ثم لم يتم له هذا الجمع ; لأن أكثر البشر لم يؤمنوا بها ، فهو لا بد أن يعذبهم في الآخرة على أنه عذب كثيرا من الناس بمثل ما عذبه به وبغير ذلك ، ومنهم المؤمنون بتلك العقيدة ، فلماذا لم يكن تعذيبهم في الدنيا فداء لهم ؟ وهل هذا هو الجمع بين العدل والرحمة ؟
ولما كانت شبهتهم على
كون المسيح بشرا إلها ، وإنسانا ربا ، هي أنه خلق على غير السنة العامة في خلق البشر ، وأنه عمل أعمالا غريبة لا تصدر عن عامة البشر ، قال تعالى في رد هذه الشبهة : (
يخلق ما يشاء ) أي لما كان له ملك السماوات والأرض وما بينهما كان من المعقول أن يكون خلقه للأشياء تابعا لمشيئته ، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان ، ومنها أبو البشر عليه السلام وقد يخلق بعضها من ذكر فقط ، أو أنثى فقط ، وقد يخلق بعضها بين ذكر وأنثى ، ولا يدل شكل الخلق ولا سببه ولا امتياز بعض المخلوقات - كالكهرباء - على بعض ألوهيتها أو حلول الإله الخالق فيها ، بل هذا لا يعقل ولا يمكن . فامتياز الأرض على عطارد أو زحل بوجود الأحياء فيها من البشر وغيرهم لا يعد دليلا على كون الأرض إلها لذلك الكوكب الذي فضلته بهذه المزية ، كذلك سنة الله في خلق
المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها أو ربا لمن لم توجد فيهم هذه المزايا ; لأن المزايا في الخلق كلها بمشيئة الخالق ، فلا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا ، نسبته إلى خالقه كنسبة سائر المخلوقات إليه تعالى . وأما الامتياز ببعض الأفعال الغريبة فهو معهود من البشر أيضا ، ونقل ذلك عن جميع الأمم والملل ، وقد ادعت الأمم الوثنية لأصحابها الألوهية والربوبية ، وأجمع الأنبياء من
بني إسرائيل وغيرهم على
[ ص: 259 ] توحيد الله تعالى ، وسموا تلك الغرائب بالآيات الإلهية ، وقالوا : إن الله تعالى قد يؤيد بها أنبياءه ورسله ، فلماذا خرجتم أيها
النصارى عن سنة النبيين والمرسلين ، واتبعتم سنة الوثنيين ، كقدماء
الهنود والمصريين ، الذين جعلوا غرابة خلق مقدسيهم وغرابة بعض أفعالهم دليلا على ألوهيتهم وربوبيتهم ؟ (
والله على كل شيء قدير ) فكل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته ، وإنما يعد بعض خلقه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص ، لا بالنسبة إليه تعالى . وكذلك غرابة بعض أفعالهم ، وهي قد تكون عن علم كسبي يجهله غيرهم ، أو قوة نفسية لم يبلغها سواهم ، أو تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير .