(
ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) المقدسة : المطهرة من الوثنية ، لما بعث الله فيها من الأنبياء دعاة التوحيد ، وفسر
مجاهد " المقدسة " : بالمباركة ، ويصدق بالبركة الحسية والمعنوية ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل أن
الأرض المقدسة : ما بين
العريش إلى
الفرات ، وروى
عبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد عن
قتادة : أنها
الشام ، والمعنى واحد ، فالمراد بالقولين
القطر السوري في عرفنا ، وهذا يدل على أن هذا التحديد
لسورية قديم ، وحسبنا أنه من عرف سلفنا الصالح . وقالوا : إنه هو مراد الله تعالى ولا أحق ولا أعدل من قسمة الله تعالى وتحديده ، وفي اصطلاح بعض المتأخرين أن
سورية هي القسم الشمالي الشرقي من هذا القطر ، والباقي يسمونه
فلسطين أو بلاد
المقدس ، والمشهور عند الناس أنها هي "
الأرض المقدسة " ، والقول الأول هو الصحيح ; فإن
بني إسرائيل ملكوا
سورية ،
فسورية وفلسطين شيء واحد في هذا المقام ، ويسمون
البلاد المقدسة أرض الميعاد ; فإن الله تعالى وعد بها ذرية
إبراهيم ، ويدخل فيما وعد الله به
إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب ، وقد خرج
موسى ببني إسرائيل من
مصر ; ليسكنهم
الأرض المقدسة التي وعدوا بها من عهد أبيهم
إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما كان يريد
موسى عليه السلام بأرض الموعد
والبلاد المقدسة ما عدا
بلاد الحجاز التي هي أرض أولاد عمهم العرب .
[ ص: 269 ] قال الدكتور
بوست في قاموس الكتاب المقدس : اختص اسم
فلسطين أولا بأرض
الفلسطينيين ، ثم أطلق على كل أرض
الإسرائيليين غربي
الأردن ، فكان يطلق عليها في الأصل اسم
كنعان ، وكانت
فلسطين معروفة أيضا
بالأرض المقدسة ، وأرض
إسرائيل ،
وأرض الموعد ، واليهودية ، وهي واقعة على الشاطئ الشرقي
للبحر المتوسط بين سهول النهرين (
الدجلة والفرات ) والبحر المذكور ، وبين ملتقى
قارتي آسية وإفريقية ، وهي متوسطة بين
أشور ومصر وبلاد
اليونان والفرس ، إلى أن قال : ويعسر علينا معرفة حدود
فلسطين ، فإنه مع دقة الشرح عن التخوم التي تفصل بين سبط وآخر لم يشرح لنا في الكتاب المقدس شرحا مستوفى ، تتميز به تخوم
فلسطين عن تخوم الأمم المجاورة لها ، ويظهر أن هذه التخوم كانت تتغير من جيل إلى جيل ، أما الأرض الموعود بها
لإبراهيم والموصوفة في كتابات
موسى فكانت تمتد من جبل
هور إلى مدخل
حماه ، ومن نهر
مصر العريش " إلى النهر الكبير
نهر الفرات " ( تك 15 : 18 وعد 34 : 2 - 12 وتث 1 : 17 ) وأكثر هذه الأراضي كانت تحت سلطة
سليمان ، فكان التخم الشمالي حينئذ
سورية ، والشرقي
الفرات والبرية
السورية ، والجنوبي
برية التيه وأدوم ، والغربي
البحر المتوسط . انتهى بنصه ، مع اختصار حذف به أكثر الشواهد ، ولا حاجة لنا بغير الأخيرة منها ، وهي التي ذكرناها .
فقوله تعالى : (
كتب الله لكم ) يريد به
موسى ما وعد الله به
إبراهيم ، يعني : كتب لهم الحق في سكنى تلك
البلاد المقدسة ، بحسب ذلك الوعد ، أو في علمه ، وليس معناه أنها كلها تكون ملكا لهم دائما ، أو لا يزاحمهم فيها أحد ; لأن هذا مخالف للواقع ، ولن يخلف الله وعده . فاستنباط
اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم الملك في
البلاد المقدسة غير صحيح ، ويحسن هنا أن نذكر نص التوراة العربية الموجودة الآن في هذا الوعد . جاء في سفر التكوين أنه لما مر
إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب ( 12 : 7 وقال لنسلك أعطي هذه الأرض ) وجاء فيه أيضا ما نصه ( 15 : 18 في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر
مصر إلى النهر الكبير نهر
الفرات ) وهذا الوعد ذكر في سفر التكوين قبل ذكر ولادة
إسماعيل ، وجاء فيه بعد ذكر ولادة
إسماعيل له ، ووعد الله بتكثير نسله ، وبكونهم يسكنون أمام جميع إخوتهم ( 17 : 8 وأعطي لك ، ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل
أرض كنعان ملكا أبديا ، وأكون إلههم ) فهذا وذاك يدلان على أن العرب أولى أولاد
إبراهيم بأن يكونوا أول من تناولهم العهد والميثاق ، والوفاء الأبدي لا يتحقق إلا به . والأمر كذلك ، فقد أصبحت تلك البلاد كلها عربية محضة .
وليس فيه بعد ذكر ولادة
إسحاق وعد
لإبراهيم مثل هذا ببلاد ولا بأرض ، ولكن فيه أنه يقيم معه عهدا أبديا لنسله ، وأن هذا العهد
لإسحاق دون
إسماعيل ، فما هذا العهد ؟
[ ص: 270 ] إن كان عهد النبوة ، فالواقع أنها ليست أبدية في نسل
إسحاق ; لأنها انقطعت بالفعل منهم من زهاء ألفي سنة ، وكان خاتم النبيين من ولد
إسماعيل ، وإن كان عهد امتلاك
الأرض المقدسة فهو لم يكن أبديا فيهم ; لأنها نزعت منهم قبل العرب ، ثم أخذها العرب ، وصارت لهم بالامتلاك السياسي ، ثم بالامتلاك الطبيعي ؛ إذ غلبوا على سائر العناصر التي كانت فيها ، وأدغموها في عنصرهم المبارك ، الذي وعد الله
إبراهيم بأن يباركه ويثمره ، ويكثره جدا جدا ، ويجعله أمة كبيرة ( راجع 17 : 18 من سفر التكوين ) .
نعم إن الفصل الرابع والثلاثين من سفر العدد صريح في
أمر بني إسرائيل بدخول أرض كنعان ، واقتسامها بين أسباط
بني إسرائيل ، وهذا حق قد وقع ، فلا مراء فيه ، وهو يوافق ما قلناه قبل من أن
بني إسرائيل يكون لهم حظ في تلك البلاد في وقت ما ، وأن وعد الله
لإبراهيم صلى الله عليه وسلم يشمل ذلك ، ولكنه ليس خاصا بهم ، ولا هم أولى به من أولاد عمهم العرب ، بل هؤلاء هم الأولى كما حصل بالفعل ، وكان وعد الله مفعولا .
يوضح هذا ما نقله كاتب سفر تثنية الاشتراع عن
موسى صلى الله عليه وسلم وهو ( 1 : 6 الرب إلهنا كلمنا في
حوريب قائلا : كفاكم قعودا في هذا الجبل 7 تحولوا وارتحلوا ، وادخلوا جبل الأموريين ، وكل ما يليه من العربة ( وفي الترجمة اليسوعية القفر ) والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ،
ولبنان إلى النهر الكبير
نهر الفرات 80 انظروا قد جعلت أمامكم الأرض ، ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم
إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم ) وأعاد التذكير بهذا الوعد في الفصل الثالث من هذا السفر ، وهذا النص هو المراد من الآية التي نفسرها ، وليس في العبارة شيء يدل على الاختصاص ولا التأبيد ، ويدخل في عموم نسل
إبراهيم نسل ولده
إسماعيل .
وأما ذكر
إسحاق ويعقوب هنا ; فلأن الرب ذكرهما بوعده
لإبراهيم أبيهما ، وأكده لهما ولنسلهما ، ولكن ليس فيه ذكر التأييد ( تك 26 و28 ) كما سبق في وعد
لإبراهيم ، فالوعد المؤكد المؤبد إنما كان
لإبراهيم ، ولم يصدق إلا بمجموع نسله ، وهم العرب
والإسرائيليون .
ومما يجب التنبيه إليه أن ذكر الرب
لإسحاق ما وعد به أباه
إبراهيم من إعطاء نسله تلك البلاد معلل بحفظ أوامره وفرائضه وشرائعه ( تك 26 : 5 وخر 13 ) وهو عين الوعد الذي ذكره
ليعقوب في المنام في الفصل الـ 28 ، وإن لم يذكر هنالك التعديل . وهو يدل على انتفاء المعلول بانتفاء علته ، وتحرير هذا المعنى هو الذي أوحاه الله تعالى إلى خاتم رسله
محمد [ ص: 271 ] النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بقوله في سورة الإسراء التي تسمى أيضا سورة بني إسرائيل ، وملخصه : أنهم يفسدون في الأرض مرتين قبل الإسلام ، فيسلط عليهم كل مرة من يذلهم ويستولي على مدينتهم ومسجدهم ، ويتبروا ما استولوا عليه منهما تتبيرا ، وقد كان ذلك ، ثم قال : (
عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا 17 : 8 ) قال المفسرون : وقد عادوا ، وعاد انتقام العدل الإلهي منهم ، فسلط الله عليهم
الروم قبل المسيحية وبعدها ، ثم المسلمين ، ومزقوا في الأرض كل ممزق ، وتدل بعض الآيات على أن الملك لا يعود إليهم ، ، ولولا ذلك لكانت آية (
عسى ربكم ) أرجى الآيات لهم ; لأنها تدل على أن الأمر يدور مع العلة وجودا وعدما ، وأنهم إن عادوا إلى الإيمان الصحيح والإصلاح يعود إليهم ما فقد منهم ، ولا يتحقق هذا إلا بالإسلام ، فإن أسلموا واتحدوا ببني عمهم العرب يملكون كل هذه البلاد وغيرها ، ولكن الرجاء في هذا بعيد في هذا العصر ; لأن
الإسرائيليين شديدو التقليد والجمود في جنسيتهم النسبية والدينية ، وهذا العصر عصر العصبية الجنسية للأقوام ، حتى إن كثيرا من شعوب المسلمين يحلون رابطتهم الدينية لأجل شد عروة الرابطة اللغوية ، وإن لم تكن لهم لغات ذات آثار يحرص عليها ، بل منهم من يتكلفون تدوين لغاتهم وتأسيسها ; لأنها لم تكن لغات علم وكتاب ، ثم إن أمر الدنيا غالب فيه على أمر الدين ،
واليهود يريدون أن يعيدوا ملكهم لهذه البلاد بتكوين وتأسيس جديد ، ويستعينون عليه بالمال وطرق العمران الحديثة .
فيا دارها بالخيف إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال فإن الشعوب النصرانية ودولها القوية تعارضهم في التغلب على
بيت المقدس . والعرب أصحاب الأرض كلها لا يتركونها لهم غنيمة باردة ، ولا تغني عنهم الوسائل الرسمية والمكايدة ، وإنما الذي يغني ويقني هو الاتفاق مع العرب على العمران ; فإن البلاد تسع من السكان أضعاف من فيها الآن .