(
قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) كان استعباد
المصريين لبني إسرائيل قد أذلهم وأفسد عليهم بأسهم ، وكان
بنو عناق الذين يسكنون أمامهم في أدنى
الأرض المقدسة أولي قوة وأولي بأس شديد ، وكانوا كبار الأجسام ، طوال القامات ، وهو المراد من كلمة " جبارين " .
فالجبار يطلق في اللغة على الطويل القوي والمتكبر والقتال بغير حق ، والعاتي المتمرد ، والذي يجبر غيره على ما يريد ، والقاهر المتسلط ، والملك العاتي ، وكله مأخوذ من قولهم : نخلة جبارة ; أي طويلة ، لا ينال ثمرها بالأيدي ، وإن عد
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هذا من المجاز في أساسه ; لأن الصيغة من صيغ المبالغة لاسم الفاعل ، من جبره على الشيء ; كأجبره . والصواب أن الأصل في الألفاظ أن تكون موضوعة للأجسام ولما يدرك بالحواس ، ويتفرع عنها ما وضع للمعاني ، وما يدرك بالعقل والاستنباط ، وقد رجعت بعد جزمي بما ذكرت إلى لسان العرب ، فإذا هو ينقل مثله وما يؤيده . ذكر الآية وقال : قال
اللحياني : أراد الطول والقوة والعظم ، قال
الأزهري : كأنه ذهب به إلى الجبار من النخيل ، وهو الطويل الذي فات يد التناول ، ويقال جبار إذا كان طويلا عظيما قويا ، تشبيها بالجبار من النخل . انتهى ، وقال
الراغب :
[ ص: 273 ] أصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر ، يقال جبرته فانجبر واجتبر ، وقد جبرته فجبر ; كقول الشاعر :
قد جبر الدين الإله فجبر
هذا قول أكثر أهل اللغة ، إلى أن قال : والجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بشيء من التعالي لا يستحقه ، وهذا لا يقال إلا على طريقة الذم ، وذكر عدة آيات فيها الآية التي نفسرها ، ثم قال : ولتصور القهر بالعلو على الأقران قيل نخلة جبارة وناقة جبارة . انتهى . وكأنه أراد أن يجمع بين المعنيين لمادة الجبر ، معنى العلو والقوة ومعنى جبر الكسر وجبر الجرح وتجبيره وما أخذ منه ; كجبر المصيبة بالتعويض عما فقد ، وجبر الفقير بإغنائه ، وكل هذه المعاني تدخل في معنى جبار النخل الذي هو القوة والنماء والطول .
والجبار من أسماء الله تعالى فيه معنى العظمة والقوة والعلو على خلقه ، وكونه لا يمكن أن يناله أحد بتأثير ما ، ومعنى جبر القلب الكسير ، وإغناء البائس الفقير ، ومعنى جبر الخلق بما وضعه من السنن الحكيمة والمقادير المنتظمة على ما أراده من التدبير ، وهو العليم الخبير ، وهو مثل اسم المتكبر مدح للخالق ، وذم للمخلوق ; إذ ليس لمخلوق أن يبالغ في معنى الجبر ؛ وهو العظمة والعلو والامتناع ، كما أنه ليس له أن يتكبر بأن يظهر للناس المرة بعد المرة أنه كبير الشأن ، ولو بالحق ، فكيف إذا كان ذلك بالباطل ، كما هو شأن البشر ! فإن الكبير بالفعل لا يتعمد ويتكلف أن يظهر للناس أنه كبير ؛ وإنما يتعمد ذلك ويتوخاه من يشعر بصغار نفسه في باطن سره ، فيحمله حب العلو على تكلف إخفاء هذا الصغار ، بما يتكلفه من إظهار كبره ، فيكون من خلقه ألا يخضع للحق ، ولا يقدر الناس قدرهم ; لأنه جعل نفسه أكبر من الحق ومن الناس ، فلا يرضى أن يكونوا فوقه ; ولذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بهذا المعنى الذي هو موضع النقص وسبب المؤاخذة ، فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003253الكبر من بطر الحق وغمط الناس " رواه
أبو داود والحاكم من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بسند صحيح . وأما
تكبر الخالق عز وجل وهو إظهار كبريائه وعظمته لعباده المرة بعد المرة فهو على كونه لا يكون إلا حقا ; لأنه تعالى أكبر من كل شيء ، وأعظم تربية وتغذية لإيمانهم ، يوجه قلوبهم إلى الكمال الأعلى ; فيقوى استعدادهم لتكميل أنفسهم وعرفانهم بها ، فيكونون أحقاء بألا يرفعوها عن مكانها بالباطل ولا يسفهوها فيرضوا لها بالخسائس . وإنما أطلنا في تفسير كلمة " جبارين " واستطردنا إلى اسم الجبار والمتكبر من أسماء الله تعالى ; لما نعلمه من ضلال بعض الناس في فهم الاسمين الكريمين .
أما ما روي في التفسير المأثور من وصف هؤلاء الجبارين ، فأكثره من الإسرائيليات الخرافية التي كان يبثها
اليهود في المسلمين ، فرووها من غير عزو إليهم ; كقولهم إن العيون
[ ص: 274 ] الاثني عشر ، الذين بعثهم
موسى إلى ما وراء
الأردن ; ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه ، رآهم أحد الجبارين فوضعهم كلهم في كسائه ، أو في حجزته ، وفي رواية كان أحدهم يجني الفاكهة ، فكان كلما أصاب واحدا من هؤلاء العيون وضعه في كمه مع الفاكهة ، وفي رواية أن سبعين رجلا من قوم
موسى استظلوا في ظل خف رجل من هؤلاء العماليق . وأمثل ما روي في ذلك وأصدقه قول
قتادة عند
عبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد في قوله تعالى : (
إن فيها قوما جبارين ) قال : هم أطول منا أجساما ، وأشد قوة ، وأفرطوا في وصف فاكهتهم ، كما أفرطوا في وصفهم ; فروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
مجاهد في قوله تعالى : (
اثني عشر نقيبا ) ( 5 : 12 ) الذي مر تفسيره : أرسلهم
موسى إلى الجبارين ، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منكم ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة .
وهذه القصة مبسوطة في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد الذي هو السفر الرابع من أسفار التوراة . وفي أولهما أن الجواسيس تجسسوا
أرض كنعان كما أمروا ، وأنهم قطعوا في عودتهم زرجونة فيها عنقود عنب واحد ، حملوه بعتلة بين اثنين منهم مع شيء من الرمان والتين وقالوا
لموسى وهو في ملأ
بني إسرائيل : ( 12 : 29 قد صرنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها ، فإذا هي بالحقيقة تدر لبنا وعسلا ، وهذا ثمرها 30 غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء ، والمدن حصينة عظيمة جدا ، ورأينا ثم أيضا
بني عناق - إلى أن قال الكاتب - 31 وكان
كالب يسكت الشعب عن
موسى قائلا : نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها 32 وأما القوم الذين صعدوا معه ( أي للتجسس ) فقالوا : لا نقدر أن نصعد إلى الشعب ; لأنهم أشد منا 33 ، وشنعوا عند
بني إسرائيل على الأرض التي تجسسوها ، وقالوا : . . . هي أرض تأكل أهلها ، وجميع الشعب الذين رأيناهم فيها طوال القامات 34 ، وقد رأينا ثم من الجبابرة ، جبابرة
بني عناق ، فصرنا في عيوننا كالجراد ، وكذلك كنا في عيونهم ) هذا آخر الفصل ، وذكر في الفصل الذي بعده تذمر
بني إسرائيل من أمر
موسى لهم بدخول تلك الأرض ، وأنهم بكوا وتمنوا لو أنهم ماتوا في أرض
مصر ، أو في البرية ، وقالوا ( 14 : 3 لماذا أتى الرب بنا إلى هذه الأرض ؟ حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة ؟ أليس خيرا لنا أن نرجع إلى
مصر ؟ ) . . . إلخ ! ! فأنت ترى أنه ليس في الرواية المعتمدة عند
بني إسرائيل تلك الخرافات التي بثوها بين المسلمين في العصر الأول ، وإنما فيها من المبالغة أنهم لخوفهم ورعبهم من الجبارين احتقروا
[ ص: 275 ] أنفسهم ، حتى رأوها كالجراد ، واعتقدوا أن الجبارين رأوهم كذلك ، وأما حمل زرجون العنب والفاكهة بين رجلين فلا يدل على مبالغة كبيرة في عظمها ، وقد يكون سبب ذلك حفظها لطول المسافة .
والعبرة في هذه الروايات الإسرائيلية ، التي راجت عند كثير من علماء التفسير والتاريخ ، وقل من صرح ببطلانها أو الرجوع إلى كتب
اليهود المعتمدة ليقفوا على المعتمد عليه عندهم فيها ؛ إذ لم يقفوا عند ما بينه القرآن من أخبار الأنبياء والأقوام هي أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ما جاء به عن بعض أهل الكتاب ، كما يزعم بعضهم وبعض الملاحدة ، لكان ما جاء به نحو ما يذكره هؤلاء الرواة الذين غشهم
اليهود ، مع أنه كان يسهل عليهم من الاطلاع على كتبهم والتمييز بين حكايتهم عن اعتقادهم وبين كذبهم ما لا يسهل على الرجل الأمي في مثل
مكة التي لم يكن فيها
يهود ولا كتب ، وأكثر أخبار الأنبياء والأمم في السور المكية .
وملخص معنى الآية : أن
موسى لما قرب بقومه من حدود
الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها مستعدين لقتال من يقاتلهم من أهلها ، وأنهم لما غلب عليهم من الضعف والذل باضطهاد
المصريين لهم وظلمهم إياهم أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم ، وقوة أهل تلك البلاد ، وحاولوا الرجوع إلى
مصر ( كما كان بعض العبيد يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم في
أمريكة ، بعد تحريرهم كلهم ومنع الاسترقاق بقوة الحكومة ; لأنهم ألفوا تلك الخدمة والعبودية ، وصارت العيشة الاستقلالية شاقة عليهم ) وقالوا
لموسى : إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها ، كأنهم يريدون أن يخرجهم منها بقوة الخوارق والآيات ; لتكون غنيمة باردة لهم ، وجهلوا أن هذا يستلزم أن يبقوا دائما على ضعفهم وجبنهم ، وأن يعيشوا بالخوارق والعجائب ما داموا في الدنيا ، لا يستعملون قواهم البدنية ولا العقلية في دفع الشر عن أنفسهم ، ولا في جلب الخير لها ، وحينئذ يكونون أكفر الخلق بنعم الله ، فكيف يؤيدهم بآياته طول الحياة ! والحكمة في مثل هذا التأييد أن يكون لبعض أصفياء الله تعالى موقتا بقدر الضرورة والسنة العامة ; فهو كالدواء بالنسبة إلى الغذاء . وقولهم (
فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) تأكيد لمفهوم ما قبله ، مؤذن بأنه لا علة لامتناعهم إلا ما ذكروه .