ثم قال في وصفهم : (
سماعون للكذب أكالون للسحت ) أعاد وصفهم بكثرة سماع الكذب لتأكيد ما قبله والتمهيد لما بعده - كما قالوا - والإعادة للتأكيد وتقرير المعنى وإفادة اهتمام المتكلم به ، مما ينبعث عن الغريزة ، ويعرف التأثير والتأثر به من الطبيعة ، ولعله عام في جميع لغات البشر ، وإذا قلنا : إن " اللام " في الآية الأولى للتعليل ، وفي هذه الآية للتقوية ينتفي التكرار ; إذ المعنى هناك : يسمعون كلام الرسول والمؤمنين لأجل أن يجدوا مجالا للكذب ، ينفرون الناس به من الإسلام ، والمعنى هنا أنهم يسمع بعضهم الكذب من بعض سماع قبول ، فهم يكذب بعضهم على بعض ، كما يكذبون على غيرهم ، ويقبل بعضهم الكذب من بعض ، فأمرهم كله مبني على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد ، وهكذا شأن الأمم الذليلة المهينة ، تلوذ بالكذب في كل أمر ، وترى أنها تدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر .
وكذلك يفشو فيها أكل السحت لأنها تعيش بالمحاباة ، وتألف الدناءة ، وتؤثر الباطل على الحق .
فسر
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود السحت بالرشوة في الدين ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس بالرشوة في الحكم ،
وعلي بالرشوة مطلقا ، قيل له : الرشوة في الحكم ؟ قال : ذلك الكفر ، وقال
عمر : بابان من السحت يأكلهما الناس ; الرشا في الحكم ، ومهر الزانية ; فأفاد أن السحت أعم من الرشوة ، ومن فسره بالرشوة المطلقة أو المقيدة فقد أراد به أنه المراد من الآية باعتبار نزولها في أحبار
اليهود ورؤسائهم ، لا المعنى اللغوي العام . وقيل : السحت : الحرام مطلقا ، أو الربا ، أو الحرام الذي فيه عار ودناءة كالرشوة . واختلف علماء العربية في معناه الأصلي الذي اختير هذا اللفظ لأجله ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : هو من سحته ، وأسحته بمعنى استأصله بالهلاك ، ومنه قوله تعالى : (
قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ) ( 20 : 61 ) . فعلى هذا يكون المراد بالسحت ما يسحت الدين والشرف لقبحه وضرره ، أو لسوء عاقبته وأثره ، وقال
الفراء : أصل السحت : شدة الجوع ، يقال : رجل مسحوت المعدة : إذا كان أكولا لا يكاد يرى إلا جائعا ، وعلى هذا يكون المراد به الحرام ، أو الكسب الدنيء الذي يحمل عليه الشره ، قرأ
ابن عامر ،
ونافع ،
وعاصم ،
وحمزة : " السحت " ، بضم السين وفتح الحاء ، والباقون بضمهما معا . لسان العرب : السحت والسحت : كل حرام قبيح الذكر ، وقيل
[ ص: 325 ] : ما خبث من المكاسب وحرم ، فلزم عنه العار وقبيح الذكر ، كثمن الكلب والخمر والخنزير . وسحت الشيء يسحته ، كفتح يفتح ، قشره قليلا قليلا ، وسحت الشحم عن اللحم : قشرته عنه مثل سحفته . وقال
اللحياني : سحت رأسه سحتا وأسحته : استأصله حلقا . وأسحت ماله : استأصله وأفسده ، إلى أن قال : والسحت - بالفتح - شدة الأكل والشرب ، ورجل سحت - بالضم - وسحيت ومسحوت : رغيب واسع الجوف ، لا يشبع . انتهى المراد من اللسان ، فعلم منه أن أصل معنى السحت : إزالة القشر عن العود بالتدريج ، وما في معناه كحلق الشعر ، ومن العرب من لا يقول : أسحت الشيء ، إلا إذا استأصله بالقشر ، ويمكن إرجاع معنى عدم الشبع إلى هذا المعنى ; كأن المعدة لسرعة هضمها تستأصل الطعام . وسمي الكسب الخسيس والحرام سحتا ; لأنه يستأصل المروءة أو الدين ، والرشوة تستأصل الثروة ، وتفسد أمر المعاملة ، وتستبدل الطمع بالعفة ، وكان أحبار
اليهود ورؤساؤهم في عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من الرشوة وغيرها من الخسائس ، كدأب سائر الأمم في عهد فسادها وانحطاطها ، وقد صارت حالهم الآن أحسن من حال كثير من الذين يعيبونهم بما كان من سلفهم .
ومن عجائب غفلة البشر عن أنفسهم أن يعيبك أحدهم بنقيصة ينسبها إلى أحد أجدادك الغابرين ، على علم منه بأنك عار عنها ، أو متصف بالمحمدة التي هي ضدها ، وهو متصف بنقيصة جدك التي يعيبك بها ! ! فإن كثيرا ممن يعدهم المسلمون من أحبارهم ورؤساء الدين فيهم ، وكثيرا من حكامهم الشرعيين والسياسيين يكذبون كثيرا ، ويقبلون الكذب ، ويأكلون السحت ، حتى إنهم يأخذون الرشوة من طلبة العلم ; ليشهدوا لهم زورا بأنهم صاروا من العلماء الأعلام ، ويعطونهم ما يسمونه " شهادة العالمية " كما يمنحهم حكامهم الرتب العلمية ، وقد تجرأ بعض طلبة
الأزهر مرة على شيخنا الإمام ، فعرض عليه ثلاثين جنيها ; ليساعده في امتحان شهادة العالمية ; لعلمه بأنه غير مستعد للامتحان ولا أهل للشهادة ، فلم يملك الأستاذ نفسه من الانفعال أن ضربه ضربا موجعا ، وقال : أتطلب مني في هذه السن أن أغش المسلمين بك لتفسد عليهم دينهم بجهلك ، بهذه الجنيهات الحقيرة في نظري العظيمة في نظرك ، وأنا الذي لم أتدنس في عمري ، حتى ولا بقبول الهدية ممن أنقذتهم من الموت ؟ ! ولو كنت ممن يتساهل في هذا لكنت من أوسع الناس ثروة . أو ما هذا مؤداه .