(
فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم . وقد اختلف العلماء في هذا التخيير أهو خاص بتلك الواقعة التي نزلت فيها الآية - وهي حد الزنا : هل هو الجلد أو الرجم ، أو دية
[ ص: 326 ] القتيل ؛ إذ كان
بنو النضير يأخذون دية كاملة على قتلاهم لقوتهم وشرفهم ،
وبنو قريظة يأخذون نصف دية لضعفهم ، وقد تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء - أم هو خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة وغيرهم ; إذ كان أولئك
اليهود معاهدين ، أم الآية عامة في جميع القضايا من جميع الكفار ، عملا بقاعدة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ المرجح المختار من الأقوال في الآية أن التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة ، وعلى هذا لا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم في بلادهم ، وإن تحاكموا إليهم ، بل هم مخيرون ، يرجحون في كل وقت ما يرون فيه المصلحة ، وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا ، وليس في الآية نسخ ، كما قال بعض من زعم أنها عامة في جميع الكفار ، وقد نسخ من عمومها التخيير في الحكم بين الذميين ، وقال بعضهم : إن التخيير منسوخ بقوله تعالى في هذا السياق : (
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ( 5 : 49 ) ونقول : لا يعقل أن تنزل آيات في سياق واحد ، كما هو الظاهر في هذه الآيات فيكون بعضها ناسخا لبعض ، وإنما تلك الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله من القسط . وسيأتي بيان ذلك .
(
وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ) أي وإن اخترت الإعراض عنهم فأعرضت ، ولم تحكم بينهم ، فلن يستطيعوا أن يضروك شيئا من الضر ، وإن ساءتهم الخيبة وفاتهم ما يرجون من خفة الحكم وسهولته ، ولعل هذا تعليل للتخيير .
(
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) أي وإن اخترت الحكم ، فاحكم بينهم بالقسط ; أي العدل ، لا بما يبغون . وقد شرحنا معناه اللغوي ، وبينا ما عظم الله من أمره في القيام به والشهادة به في تفسير الآية 135 من سورة النساء ( ص370 - 373 ج 5 ط الهيئة ) والآية الثامنة من هذه السورة ( ص226 - 227 ج 5 ط الهيئة ) والمقسطون هم المقيمون للقسط بالحكم به أو الشهادة أو غير ذلك ، وفصلنا القول في الحكم بالعدل في تفسير (
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) ( 4 : 58 ) فيراجع في المنار ( ص139 - 145 ج 5 ط الهيئة ) .