(
ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) هذه الآيات من تتمة السياق السابق ، فلما كان من يتولى الكافرين من دون المؤمنين يعد منهم كان أولئك الذين يسارعون فيهم من مرضى القلوب مرتدين بتوليهم إياهم ، فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق ، ولما بين الله حالهم أراد أن يبين حقيقة يدعمها بخبر من الغيب ، يظهره الزمن المستقبل ; وهي أن المنافقين مرضى القلوب لا غناء فيهم ، ولا يعتد بهم في نصر الدين وإقامة الحق ، وإنما يقيم الله الدين ويؤيده بالمؤمنين الصادقين الذين يحبهم الله ، فيزيدهم رسوخا في الحق ، وقوة على إقامته ، ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل وإتمام حكمته في الأرض على سائر محبوباتهم من مال ومتاع ، وأهل وولد .
[ ص: 360 ] هذه هي الحقيقة ، وأما خبر الغيب فهو أنه سيرتد بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا ، فلا يضره ذلك ; لأن الله تعالى يسخر له من ينصره ويجاهد لحفظه ، فقال : (
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) قرأ
ابن عامر ونافع " يرتدد " بدالين ، والباقون " يرتد " بدال واحدة مشددة ، وهما لغتان ; فلغة إظهار الدالين هي الأصل ، ولغة الإدغام تشديد يراد به التخفيف ، والمعنى : من يرتد منكم يا جماعة الذين دخلوا في أهل الإيمان عن دينه لعدم رسوخه ، فسوف يأتي الله مكانهم ، أو بدلا منهم بقوم راسخين في الإيمان يحبهم ويحبونه . . . إلى آخر ما ذكره من صفات المؤمنين الصادقين .
أخرج رواة التفسير المأثور عن
قتادة ، واللفظ
nindex.php?page=showalam&ids=16935لابن جرير ، أنه قال : أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ،
فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام ، إلا ثلاثة مساجد - أهل
المدينة ، وأهل
مكة ، وأهل
البحرين من
عبد القيس . قالوا ( أي المرتدون ) : نصلي ولا نزكي ، والله لا نغصب أموالنا ، فكلم
أبو بكر في ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها ، فقال : لا والله ، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه ، فبعث الله عصابة مع
أبي بكر ، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ، ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - وهي الزكاة - صغرة أقمياء ، فأتته وفود العرب فخيرهم بين حطة مخزية أو حرب مجلية ; فاختاروا الحطة المخزية ، وكانت أهون عليهم أن يستعدوا ، أن قتلاهم في النار ، وأن قتلى المؤمنين في الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم ، وما أصاب المسلمين لهم من مال فهو لهم حلال ، فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه على هذا هم
أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، ونقل المفسرون هذا القول عن
علي المرتضى والحسن وقتادة والضحاك ، ورووا عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي أنه قال : إنهم
الأنصار ; لأنهم هم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هم
الفرس لحديث ورد في مناقب
سلمان أنهم قومه ، ولكنه ضعيف ، وقيل : نزلت في
علي كرم الله وجهه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعد في
خيبر بأن يعطي الراية غدا رجلا يحبه الله ، ثم أعطاها
عليا ، وليس هذا بدليل ، ولفظ القوم لا يجري على الواحد ; لأنه نص في الجماعة ، وغلاة
[ ص: 361 ] الرافضة يزعمون أن الذين ارتدوا هم
أبو بكر ومن شايعه من الصحابة ، وهم السواد الأعظم ، فقلبوا الموضوع ، ولكن
عليا كان مع
أبي بكر لا عليه ، ولم يقتله ، هذه دسيسة من زنادقة
الفرس وساستهم الذين كانوا يريدون الانتقام من
أبي بكر وعمر ; لفتحهما بلادهم ، وإزالتهما لملكهم ، وخيار مسلمي
الفرس نصروا الإسلام فيدخلون في عموم الآية إذا جعلت لعموم من تتحقق فيهم تلك الصفات .
وروى أهل التفسير المأثور حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في القوم الذين يحبهم الله ويحبونه : " إنهم قوم
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري " ، وروي عن بعضهم أنهم من أهل
اليمن على الإطلاق ،
والأشعريون من أهل
اليمن ، وفي رواية : هم أهل
سبأ ، وفي حديث آخر : " هؤلاء قوم من أهل
اليمن من
كندة ، ثم من السكون ، ثم التجيب " .
وقد رجح
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير أن الآية نزلت في قوم
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري ، من أهل
اليمن ، للحديث في ذلك ، وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع
أبي بكر . قال : الله تعالى وعد بأن يأتي بخير من المرتدين بدلا منهم ، ولم يقل : إنهم يقاتلون المرتدين ، ورأى أنه يكفي في صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين ، وأن مجيء
الأشعريين على عهد
عمر كان موقعه من الإسلام أحسن موقع ، ولقائل أن يقول : إن الآية تصدق في كل من اتصف بمضمونها ، ومن أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قاتلوا المرتدين هم أهلها بالأولى .
أما الذين ارتدوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده فكثيرون ، وقاتلهم كثيرون ، فكان كل مفسر يذكر قوما ممن حاربوا المرتدين ، ويحمل الآية عليهم لمرجح ما ، فقد روى أهل السير والتاريخ أنه
قد ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ; ثلاث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الأولى ) : بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الخمار ; وهو الأسود العنسي ، كان كاهنا تنبأ باليمن ، واستولى على بلاده ، فأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل ، وإلى سادات اليمن ، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي ; بيته فقتله ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل ، فسر به المسلمون ، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى خبره في شهر ربيع الأول .
( الثانية ) :
بنو حنيفة قوم
مسيلمة الكذاب بن حبيب ، تنبأ وكتب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم : من
مسيلمة رسول الله إلى
محمد رسول الله . سلام عليك . أما بعد : فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ،
ولقريش نصف الأرض ، ولكن
قريشا قوم يعتدون . فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم رسولان له بذلك ، فحين قرأ
[ ص: 362 ] صلى الله عليه وسلم كتابه قال لهما : " فما تقولان أنتما ؟ " قالا : نقول كما قال ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ، ثم كتب إليه " بسم الله الرحمن الرحيم . من
محمد رسول الله إلى
مسيلمة الكذاب . السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين " ، وكان ذلك في سنة عشر ، فحاربه
أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين ، وقتل على يدي
وحشي قاتل
حمزة رضي الله عنه ، وكان يقول : قتلت في جاهليتي خير الناس ، وفي إسلامي شر الناس . وقيل : اشترك في قتله هو
nindex.php?page=showalam&ids=113وعبد الله بن زيد الأنصاري ؛ طعنه
وحشي ، وضربه
عبد الله بسيفه ، وهو القائل في أبيات :
يسائلني الناس عن قتله فقلت ضربت وهذا طعن
( الثالثة ) :
بنو أسد ; قوم
nindex.php?page=showalam&ids=2265طليحة بن خويلد ، تنبأ ، فبعث
أبو بكر رضي الله عنه إليه
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد ، فانهزم بعد القتال إلى
الشام ، فأسلم وحسن إسلامه .
وارتدت سبع فرق في عهد أبي بكر ( 1 ) :
فزارة قوم
عيينة بن حصن . ( 2 )
غطفان قوم
قرة بن سلمة القشيري . ( 3 )
بنو سليم قوم
الفجاءة بن عبد ياليل . ( 4 )
بنو يربوع قوم
مالك بن نويرة . ( 5 ) بعض
بني تميم قوم
سجاح بنت المنذر الكاهنة ، تنبأت ، وزوجت نفسها من
مسيلمة في قصة شهيرة ، وصح أنها أسلمت بعد ذلك ، وحسن إسلامها . ( 6 )
كندة قوم
nindex.php?page=showalam&ids=185الأشعث بن قيس . ( 7 )
بنو بكر بن وائل بالبحرين ، قوم
الحطم بن زيد ، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي
أبي بكر رضي الله تعالى عنه .
وارتدت فرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه وهم
غسان قوم
nindex.php?page=showalam&ids=15620جبلة بن الأيهم ، تنصر ولحق
بالشام ، ومات على ردته ، وقيل إنه أسلم ، ويروى أن
عمر رضي الله عنه كتب إلى أحبار
الشام لما لحق بهم كتابا فيه : إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم ، فأكرمته ، ثم سار إلى
مكة فطاف ، فوطئ إزاره رجل من
بني فزارة ، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه - وفي رواية : قلع عينه - فاستعدى الفزاري على جبلة إلي ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص ، فقال : أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقلت : شملك وإياه الإسلام ، فما تفضله إلا بالعافية . فسأل جبلة التأخير إلى الغد ، فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ، ولحق
بالشام مرتدا ، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد :
تنصرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركني منها لجاج حمية فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر
[ ص: 363 ] فهؤلاء لم يقاتلهم أحد .
وأبو بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من
المهاجرين والأنصار . فهم الذين تصدق عليهم صفات الآية أولا وبالذات .